الجمعة، 27 مايو 2011

هل يمكن أن نحيا حياة أفضل - 5


فِي المَهَامِ الدُّنْيَوِيّة
مَدخَل
"عَلى هَذِه الأَرْضِ مَا يَستَحِقّ الحَيَاة
سَاعَة الشِّمسِ في السِّجْن
غَيمٌ يُقلّدُ سِرباً مِن الكَائِنَات
هُتَافَاتُ شَعبٍ لِمَن يَصعدُون إلى حَتفِهِم  بَاسِمِين".
هكذا يحدثنا محمود درويش في رائعته التي تحمل ذات الاسم، فهل هي رؤية شاعرٍ هائمٍ في أودية الغواية، أم أنها البصيرة لبست ثوب الشعر؟
ننطلق كل صباح سعياً وراء المعاش والحياة، وبعضُ ذلك من شأن الدنيا، وبعضه من شأن الآخرة، وبعضه نرجو أن يصيب الاثنين بطريقةٍ ما. نخطّط ونسعى، نحلُم ونجدّ، لكننا نشعر دائماً أننا غير راضين عن حياتنا حتى عندما نحصل على ما نريد. هل لأننا لا نطلب ما يُغير حياتنا فعلاً؟ أم أن ما نطلبه فارغٌ في حدّ ذاته؟ أم أنها طبيعة الدنيا، لا يجب أن تحمل الرضا أو اليقين أو الطمأنينة؟ كل ما هو نهائي، يخطر لك، أنه من شأن الآخرة وحسب. فما الممكن في الدنيا؟
كونها مطيةُ الآخرة لا يفترض بالدنيا أن تمنحنا الأمان والوصول، وإنما التشوّق، التعلّق، التجاوز؟. ولأننا في وجودٍ مادّي (الدنيا) فإن أغلب ما نحصله/ننجزه يكون مادياً، والمادي ليس من جوهر الإنسان، لذلك لن يكون كافياً أبداً، لن يكون مُرضياً. الدين يعتبر الدنيا حالةَ اختبار، مهمةً ينبغي انجازها بنجاح قبل الخروج منها. يُوضع الإنسان في وعاء الطين لينبعث هنا، يكدح ويعمل ويموت (هنا) ليخرج/يعود حراً.
ثِقَلُ الطِّين
برغم حياة/حيوات الإنسان السابقة لوجوده على الأرض، وحيواته المتعددة بعدها، إلا أن نجاحه الكلي أو فشله رهينٌ بهذه الحياة وحدها، ليس عالم الذرّ ولا العوالم التالية. لا بد أن الطين هذا يضع عبئاً حقيقياً على الإنسان، ولا بد أن هذا العالم خطيرٌ جداً ليكون له هذا التأثير، برغم الرحلة القصيرة التي شبهها الحديث النبوي بمسافر قَال (ارتاح من حرّ الظهيرة) تحت ظلّ شجرةٍ ثم مضى. فهل من مهمةٍ لهذا المسافر؟
مهمة الإنسان على هذه الأرض على الارجح هي الحرية. عندما وضع الإنسان في جسد الطين، تشكلت النفس ككينونةٍ حاميةٍ راعيةٍ ومُميِّزةٍ له في هذا العالم، لذلك فإن تعلقاتها غالباً ماديةٌ وأنانيةٌ وذاتية. لذلك على الإنسان أن يتحرر. كونه المخلوق العاجز الضعيف الفقير، فإن روح الإنسان تشعل تَوقَه لربّه، القادر القوي الغني. التوق إلى الحرية هو رحلةُ الإنسان كلها. تحرره من قيوده المادية والمعنوية والنفسية هو عمله، مهمته. إنه لن ينجح إلا بعد اختبار كل هذه القيود واجتيازها.
قبل الطين يكون الإنسان احتمالاً غير مُتحقّق، ما لم يتجسّد ويُختبر فإنه لا يتحقق لا يكون فعلاً. إن حياتنا الحالية هي هذا الاحتمال، وبقدر ما هو مهم، فإنه أيضاً مؤشرٌ لما لم يتحقق، وهو ربما أمرٌ شديدُ الأهمية. إن ما لم يتحقق يُلهمنا ويُخطر لنا، ويغوينا ويغرينا لنختبره فنكون. نستوفي كينونتنا النهائية الكاملة. وربما يكون ذلك بعض الرزق الذي نستوفيه قبل الموت.
عندما نُسرف في تكرار شيء / عادة / فعل بعينه، فإننا نلغي الامكانات والاحتمالات الاخرى. نستحيل كائناً ضيقاً محدوداً أكثر وأكثر، يتضخم شيءٌ واحدٌ فيما يضمر كلُّ شيءٍ آخر.
هل كل حياتنا للآخرة أم أن هنالك ما نفعله هنا؟
أحيانا نمنح السعادة من حولنا، وهو أمر يُجزَى بأجرٍ عظيم، لكنه أيضاً يمنحنا شعوراً بالسعادة. ولو أننا نعلم أن موقفاً أو شعوراً أو معنىً نتسبب فيه قد يؤدي لتغيير حياة أحدٍ ما، فلا بدّ أننا سنفعل ذلك بكلّ سرور وسنعطي المزيد. لا تمنحنا الحياة دائماً تغذية مرتجعة (Feedback) لكل فعلٍ نقوم به، لكننا يمكن أن نقرأ ذلك من كتابنا. كيف تغيرت حياتنا بسبب موقفٍ أو فعلٍ أو قولٍ أو شعورٍ منحنا أياه شخصٌ ما. يمكننا أن نتخيل. ويمكن أن نستمر دائماً في تقديم المزيد، نفعل الخير وننشر الجمال حولنا لأن أعيننا تقع عليه حتى قبل أن تقع عليه أعين الناس.
سَأهتَدِي للنّبعِ إِنْ جَفّ النَّبَات
غير أن القيمة المطلقة للخير والجمال، أن تفعله غير منتظرٍ لمكافأة أو حتى تقدير (رغم أنه ليس سيئاً إن حدث). حين يصبح الجمال جزءاً من كل ما تفعل، حين تزيح عنه التراب فيصدر عنك فائضاً وغامراً. وإذا لم يتفجر النبع داخلك، كيف يمتلئ إناؤك ويفيض؟ إننا ننشد الجمال في هذه الأرض، نطلبه ونقدمه عندما يفيض عنا.
رغم أنه ليست للجمال قيمةٌ ذات عائدٍ في نفسها، فإنه يتمتع بقيمةٍ أصليةٍ مثل الخير. وَسَم به الله سبحانه وتعالى الوجود كله وجعله أصيلاً فيه ويتفاعل معه دائماً. "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها". في وقت انهيار الحياة كلها يجب أن تستمر في فعل لا يعود بالفائدة على أحدٍ سواك، إن الفسيلة لن تثمر أبداً ولن تخرج من تحت الأرض حتى! ما نفعله انعكاس لدواخلنا، وعندما نغرس، ننشر الجمال، نتغير داخليا بانتصار الجمال فينا. وربما نتساءل عن رمزية الغرس هذه، وما يوازيها من أفعال أخرى، بعثُ الحياة بأشكالها المتعددة المادية والمعنوية، أولعله انتصار الجمال المجرد الذي لا ينتظر انتفاع أي أحد، يكون المقام الأسمى فعلا ذلك الذي يجب أن تبلغه او تطلبه ولو عند آخر لحظة في الحياة.
تَذْيِيل
سِيري ببُطءٍ يَا حَياةُ
لِكَي أََرَاك بِكامِلِ النُّقصَانِ حَولِي
كَم نَسيتُكِ في خضمّكِ
بَاحِثاً عنّي وعَنْكِ
وكُلّمَا أدركتُ سرّاً مِنكِ
قلتِ بقسوةٍ: ما أَجهَلَكْ!‏
قلْ للغياب: نَقَصْتَني وأَنَا حَضَرتُ ... لأُكمِلَكْ!‏
محمود درويش (كزهر اللوز أو أبعد)