الاثنين، 25 يوليو 2011

هل يمكن أن نحيا حياة أفضل - 6


جِسرٌ عَلَى نَهرَينِ رِحلَتُنا
مَدخَل
"ذوِّبْ هنا صلْصالَنا ليشقَّ صورة هذه الأشياء نورُ
حلِّقْ لتَّتضحَ المسافةُ بين ما كنا وما سيكون حاضرُنا الأخيرُ
ننأى ، فندنو من حقيقتنا ومن أسوار غربتنا . وهاجِسُنا العبورُ"
مَا النُورُ إلَّا غِيَابٌ للظُلمَة
خَلقُ العالم هو تجلٍّ لثنائية الخالق والمخلوق. هو تجلي الخالق في خلقه. وفي تكوين العالم يتجلى التناقض/الثنائي في الحق والباطل، الخير والشر، الجمال والقبح، النور والظلمة. المخلوق المحدود الفاني المفتقر، في مقابل خالقه المطلق الدائم الغني سبحانه وتعالى. جادل ألبرت اينشتاين لما كان صبيا ببصيرة نافذة، أستاذه الملحد، أن الظلمة في الحقيقة هي غياب النور، والشر ليس إلا غياب الخير (الله). وبالتالي فكل قبح وسوء هو حالة سالبة وليست فاعلة، تنتظر الفراغ لتملأه.
الإنسان بتكوينه وخلقه يجسد هذا التناقض. فالروح المطلقة محبوسة في الجسد الفاني، والمكون المعنوي غير المحسوس مقيد بالجسد المادي اللازم لوجوده في هذا العالم. اختبار الإنسان على هذه الأرض، هو اختياره بين النقيضين، الخير أم الشر، الجمال أم القبح، الإيثار أم الأثرة، العطاء أم المنع والآخرة أم الدنيا. ورغم أن الله سبحانه يجزي كل حسن بالحسنات وكل سيئ بالسيئات، إلا أن الإنسان بغض النظر عن قيمة الأجر، فانه يشعر بالراحة والرضا حين يفعل الخير ويشعر بالسوء حين يخالف ذلك. ذلك يتطلب كون الإنسان مخلوق، مصمم بميل في داخله إلى الخير، وعليه فإننا نعتبر من يحب الشر مريضاً وغير سوي.
الكونُ أَصغرُ من جناحِ فراشَةٍ في ساحةِ القلبِ الكبيرِ
"أتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر" يحدثنا مستفهما الإمام علي عليه السلام. الإنسان وفق هذه الرؤية أوسع من الكون. هذا يقتضي استعدادات واحتمالات وإمكانات لا نهائية لكل فعل إنساني، في الدوافع والنوايا والأساليب والأشكال والأفعال النهائية التي يختبرها ويختار من بينها.
إن إدراكنا للتناقض في العالم من حولنا يصدر من إدراكنا التناقض في داخلنا، إذا لا بد أن يكون التناقض موجودا فينا قبل أن يتجسد في العالم الخارجي. لا يمكنك أن تدرك فكرة لا يتصورها ذهنك، لا يمكن أن تفهم شيئا أو فكرة أو معنى لا تملك له صورة في ذهنك. ولا يمكنك أن تفهم أو تدرك أو تشعر بما ليس موجودا داخلك. لا يحل المعنى في وعي لا يدركه. وبالتالي علينا إذ ندرك شيئا أن ننظر نصيبنا منه. هذا هو التعرف على النفس فعلا، عندما نتجاوز الخارج والحكم عليه أو السيطرة لفهمه وفهم أنفسنا. هذا الرصيد المشترك أساسي لتفاهم البشر وتفهم بعضهم البعض. انه ليس ذاكرة مشتركة قديمة، بل استعدادات يختار الإنسان من بينها ما يريده وما سيصبحه في النهاية.
لا تَرَى إِلاَّ مَا تَعرِف
رؤيتك للتناقض الهائل اللانهائي في الداخل مهم للإدراك الكلي للأمور ذلك الذي نسميه الحكمة وهو رؤية الممكنات. والأمر أيضا متعلقٌ أيضا بالحرية: حرية الاختيار، لان رؤيتك للمحدود تقيد حريتك. رؤيتك التناقض دون جزع أو رغبة في تغطيته وإنكاره أو الخوف منه - الذي يصيبك بالشلل - أمر أساسي للتوازن والتجانس. التجانس ليس التقارب أو التشابه أو الوسط الرياضي لمجموعة أعداد لكنه وعيك بالشيء يحمل نقيضه.
وعيك أن عليك أن تمضي في الطريق التي يختلط فيها  كل شيء بنقيضه على طول الطريق، بلا يقين أحيانا، بلا سيطرة أحيانا، بلا ثقة مسبقة في النتائج وما ستكونه الأمور.
وعيك أن ما تحبه عرضة دائماً لتغوُّل ما لا تحبه بالذات.
وعيك بالأمور تمضي على غير ما تريد بالضبط، وعيك أنك تفعل ما لا تريد أحيانا، وعيك لقوى داخلك تعمل مستقلةً عنك. لا بد أن تعيها وتعرفها لتنجو من مفاجآتها البغيضة وقفزاتها المدمرة..
وعيك برؤيتك في مقابل رؤية الآخر، تفضيلاتك في مقابل تفضيلاته، رغباتك وطموحاتك وأناك في مقابله. رؤيتك لك وله ولما هو أسمى وأجمل كاختيار يمكن أن تكوناه.
وعيك أن تجانسك الحقيقي هو تجانسك مع جوهرك، الحق والخير والجمال والمحبة، تجانسك مع خالقك. تلك مهمتك في الحياة أن تخلص جوهرك من عوالقه وقيوده، بانتباهك للنقيض المتحفز لغياب الجوهر ليحل محله.
رؤيتك التناقض قد تبعث الخوف في داخلك، لكن ما يجب أن تخافه فعلا هو عدم رؤيتك ذلك، لأنك ستحيا على جانب واحد من الطريق هو الذي تراه، ستميل وتميل وتميل، وتخسر كل ما كان ممكناً أن تكونه. أسوأ ما في الحياة ألا تفعل، ألا تختبر نفسك، ألا تستقصي مداك ومدى كل شيءٍ داخلك.  بالانتباه واليقظة تمضي في الطريق ولا تخشى مزالقه. تتحقق فعلاً.
نُورُك يَغمُرُ الوُجُود
امتلاؤك بالنور ينهي الظلمة. امتلاؤك بالخير ينهي الشر، امتلاؤك بالمحبة يبذر الجمال في كل مكان. هنالك سمات مميزة للنور حتى في العالم المادي: أنه يذهب إلى ما لانهاية، أنه لا يتوقف ولا يضعف، وأن وجوده فقط يبدِّد الظلمة، وأن الهنا والهناك عنده مكان واحد. عندما يفيض إشراقك بالنور يغمر ما حولك ومن حولك، وعندما تفيض بالمحبة، يخضر الوجود كله.
الإدراك نفسه تناقض، التأرجح بين الإدراك والفعل تناقض، الفعل المخالف لظاهره تناقض، الفعل أيا يكن تناقض مع احتمالاته غير المتحققة.
تذييل
"جئنا لنعْلَم أننا جئنا لنرجعَ من غياب لا نريدُهْ
ولنا حياةٌ لم نُجَرِّبْها ، وملحٌ لم يخلِّدنا خلودُهُ
ولنا خطى لم يَخْطُها من قبلنا أًحَدٌ .. فطيرِي
طيري ، إذاً ، يا طيرُ في ساحات هذا القلب طيري
وتجمِعي من حول هُدْهُدِنَا ، وطيري .. كي .. تطيري!"