الثلاثاء، 15 فبراير 2011

هل يمكن أن نحيا حياة أفضل - 3


أَسْرَى عَالَمِ الصُّوَر
اسْتِهْلَال
"أَسرَى ، ولَو قَفَزَتْ سَنَابِلُنَا عَنِ الأَسْوَار
وَانْبَثَقَ السُّنُونُو مِنْ قَيْدِنَا المَكْسُور ،
أَسْرَى مَا نُحِبُّ وَمَا نُرِيدُ وَمَا نَكُون .."  محمود درويش – الهدهد
التَّوقُّف عن الإِدِّعَاء
ربما نقبل على مضض فكرة أننا لا نعرف أنفسنا بعد، أو لا نعرف أنفسنا كما ينبغي بتعبيرٍ أكثر لياقةً. إذا كانت المعرفة هي الإدراك الواسع والشامل، فالحقيقة هي أننا لا نعرف أنفسنا مطلقا. ما نعرفه عن أنفسنا هو الصور التي أنشأناها عنّا. أنا واضح، صريح، حقاني، طيب، جيد، لا أتحمل الإساءة، لا أفعل كذاءاتٍ معينة، وأفعل كذاءاتٍ غيرها. هذه الصور مجزأة محدودة وليست صادقة تماماً. هنالك إدراكنا لأنفسنا التي نحبها : نُجَمِّلها أكثر، نجعلها ناصعة أكثر، مع لمحة من التواضع الكاذب. وهنالك أيضا إدراكنا لنفسنا التي نخشاها : نتستر عليها، نخفيها. من انصع أنوارنا إلى أحلك ظلماتنا وكل التدرج اللوني بينهما تتجلى حقيقة ما نحن إياه. لكلٍّ منا ظلمته التي لا يريد أن يطلع عليها أحد، ولكلٍّ منا نوره الذي يريد أن يباهي به كل أحد. لننسى كل أحد وننعم النظر في هذه الشساعة المخلة المضطربة المشوشة. هذا أنا وأنت ونحن بلا ادعاء.
سُورُ الذِّكْرَيَات
لنعرف من نحن علينا أن ننظر بانتباهٍ عظيم وأعين مفتوحة على اتساعها للقبح يجاور الجمال فينا، كيف نعيش متناقضين هكذا، مشدودين هكذا بين الأفقين. علينا أن نعترف ثم نتعرف حقا على هذا القبح، أي قبحٍ هو، متى ينهض، متى يكبر وكيف، متى ينجح وكيف ثم نتستر عليه وننكره. ونتعرف على الجمال الذي تخلينا عنه إلا قليلا أي جمالٍ هو، متى ينهض ومتى يكبر وكيف، ومتى يشرق وكيف ثم ندعيه او نباهي به. علينا أن ننظر دون إغماضٍ أو خجل، ودون فخرٍ أو إعجاب. إذ نفتخر نتوقف عن الإدراك، إذا نستحي ونغمض أعيننا نتوقف عن الإدراك. لكننا دائماً نصطدم بسورٍ يحدنا ويغير اتجاه حركتنا، إنه سور الذكريات، اذ نتذكر حادثة او موقف بعينه يؤلمنا وينغص علينا راحتنا بشكلٍ ما، فننصرف اليه نُصَحِّحه في وهمنا نَعتَذر ونُبَرِّر ونَكذِب، ننسى ما كنا نفعل. لا إدراك حقيقي إلا خارج السور، إلا في تجاوزه. كلما سألنا أنفسنا تذكرنا شيئاً فاكتفينا بتلك الذكرى مُعرِّفاً ومُفسِّراً ثم وقعنا أسر الذكرى وشعرنا بالرضا أو الأسى حيال ما لم نعالجه جيداً في حياتنا. علينا أن نمضي إلى حيث لم نذهب من قبل، فلو كان في معرفتنا السابقة ما يُفيد لكنّا أحسن حالاً.
إخْلَاءُ الذِّهْن
يبدو أنه لا يمكن اكتشاف شيء جديد إذا كنا أسرى المعرفة القديمة. إذا كنا نعتقد أن الشمس تدور حول الأرض فلن ينفعنا سهر الليالي لخمسمائة عام في رصد النجوم وحركة السماء، ولكن عند الانفتاح على إمكان وجود تفسير جديد لنظام الكون يمكن تفسير حركة النجوم المتغيرة كما فعل كوبرنيكوس. وكذلك عند الانفتاح على وجود إمكانات هائلة، ونَسَق لم نلاحظه من قبل تتجلى معرفة جديدة.
لعلنا رغم إعجابنا بما نعرف وبأهميته الكبيرة والبناء التراكمي لخبراتنا نكون أقرب إلى الحقيقة عندما نضرب صفحاً عن ذلك كله، نُفرغِّ الذهن عن محتواه تماما. إنه أنفع ما يكون حين نتجاوزه. حينما نتجاوزه لن يزعجنا لو وجدناه غير صالح، أو اختبرناه فعاد علينا بالخلاصة القديمة، ولعلنا سنكون أكثر تيقنا هذه المرة. هذه المقاربة التي لا تركض وراء الفكرة وإنما وراء الحقيقة التي تثبت بعد الاختبار، هي أفضل ما نتعرف به على الحقيقة دائماً. إننا لا نسعى وراء ما نحب أو ما نكره، فقط ننشد حقيقة الأمر. هذه الحرية من كلّ قيد، قيد المعرفة، والذكريات، والوعي، والإدراك؛ قيد الخوف أحياناً، والجبن أحياناً، والعجز أحياناً، والغرور أحياناً، هي الزاد، الأداة، المنهج الذي نطلب به الحق ولعلنا حينها ندركه. بدون الحقيقة نحن في عالمٍ مُتَخيّل، وهمي، صنعناه لنشعر بالأمان أو بالرضا عن أنفسنا، لنشبع غرورنا.  لكن هل نقدر على التخلي عن الذهن الذي تعتمد عليه حياتنا اليومية؟ كلا. علينا أن نتخلى عن وعينا المشروط والمحدود والمقيَّد للذهن المشروط والمحدود والمقيَّد. فقط لا غير.
" أَنْسَى مَنْ أَكُون  لِكَي أَكُون " محمود درويش – قال المسافر للمسافر لن أعود ..
عَالَمُ الصُّوَر
لدينا فكرةٌ عن كلّ شيء، رأيٌ في كلّ شيء، صورةٌ جاهزةٌ لكلّ شيء، كلما ذُكِرَت أمامنا كلمة تخطر في أذهاننا صورٌ معينة. كلما واجهنا موقفاً أو شخصاً تخرج في وعينا صورةٌ معينة. هذه الصور هي خطة الذهن الكسول لعدم بذل الجهد الحقيقي في الاقتراب من الأشياء والناس واكتشاف الجديد. نشكو عندما يضعنا الناس في قوالب ويعاملوننا وفق صور جاهزة، لكننا نفعل بهم نفس الشيء. الأدهى أننا نفعل نفس الشيء حيال أنفسنا. كل ما نعرفه عن أنفسنا هو صور جاهزة نمطية متشاكسة ليست دقيقة كذلك. لا توجد صورة يمكن أن تصف كائناً حياً. الكائن في صيرورة لانهائية لا يمكن إمساكها مطلقا، حتى الصورة الفوتوغرافية لا تصلح لتعريف الكائن إلا وصفاً لما ظهر منه أوان التقاطها بالزاوية المعينة في المكان المعين على الهيئة والسمات التي سجلتها الآلة وفق قدرتها التقنية. فما بالك إذن بما لم يظهر، وما لا يظهر.
عالم الصور هو ما ندرك به الأشياء، وهو ما يضللنا. هل نستطيع أن نستفيد منه دون الوقوع في شرك تضليله ؟ أم أن الأَولَى أن نلغيه مرةً بعد مرة لنتلقى شيئاً جديداً وحقيقياً ؟
ننظر دائماً إلى حياتنا فلا نقدر على الشعور بالرضا حيالها، ألا يجدر بنا أن نجرب شيئاً جديداً، أن نحاول اختبار ما نخشاه، أن ننهض من وراء المتراس الذي نتحصن خلفه، لأنه غير موجود إلا في أوهامنا.
علينا دائماً أن نذكر أن الحياة مثل مباراة تذاع مباشرةً على الهواء ما يفوت منها لا يعاد، فقط يظل ذكرى على الشريط. وما على الشريط هو ما سجلته الكاميرا وليس كل ما حدث هناك. وما نفعله نحن هو الاستمتاع بالشريط وترك الحياة الحقيقية.
تَذْيِيل
"ذَوِّب هُنَا صَلْصَالَنَا لِيَشُقَّ صُورَةِ هَذِهِ الأَشْيَاءِ نُورْ
حَلِّقْ لِتَتَّضِحِ المَسَافَة بَينَ مَا كُنَّا وَمَا سَيَكُونُ حَاضِرُنَا الأَخِيرْ
نَنْأَى ، فَنَدْنُو مِنْ حَقِيقَتِنَا وَمِن أَسْوَارِ غُرْبَتِنَا . وَهَاجِسُنَا العُبُور " محمود درويش – الهدهد.

هل يمكن أن نحيا حياة أفضل - 2


أَنَا وأَنْت حالةٌ تَارِيخيَّة

التَّوقُّف عن الهروب
ذكَّرني الأخ المكاشفي، في حسن ظنٍ ورقيق كلامٍ يصدر عن مثله وهم قليل، معلِّقا على المقال السابق، ذكَّرني بنيفاشا والحرب والسلام والاستفتاء والوطن الذي ربما ينقسم وينقسم معه وجداننا وذكرياتنا وأشياء كثيرة. بدون هذه التفاصيل المرهقة وآلامها – تلك التي أرهقته وأرهقتنا جميعا - لسنا في حالة أفضل، لذلك آمل أن نتجاوز حقاً كل التفاصيل (السياسية والاجتماعية والاقتصادية) حولنا ونجرب السكون الخلَّاق علنا ندرك ما لم ندركه في السعي المحموم والركض الدائم. إنها تفاصيل تزيدنا ارتباكا ولا شك، لكن اعتقد أنه في صميم كينونتنا هنالك القليل جداً من التفاصيل التي تؤثر علينا حقاً. إننا لا نهرب من الخارج إلى الداخل وإنما نتوقف عن الهرب إلى الخارج ونهتم بالداخل الذي أهملناه طويلاً.
إن جذور المشكلة تمتد لزمن بعيد. نقضي طفولتنا كلها نحلم بما سنكونه ونفعله عندما نكبر، وعندما نكبر لا نذكر ذلك ولا نريده، لأننا صرنا شيئاً آخر وآخر مرة بعد مرة. كلما كبرنا نصير أسوأ في الغالب لأننا نتخلى في كل مرة عن أشياء كثيرة. توجز الحكمة الدارجة ذلك "يريد الواحد تغيير العالم. ثم يكتفي بتغيير الوطن. ثم يتراجع إلى القرية. ثم يتنازل إلى الأسرة. ثم يتوقف محاولا تغيير نفسه في الستين من عمره". صيرورة العجز هذه تخلص بك إلى أن المعادلة معكوسة رغم أنك تتساءل كيف سيغيِّر شاب عشيريني نفسه التي لم تتشكل بعد ولم يبغضها بعد ليرغب في تغييرها.
ما نَطْلُبُه نَكُونُه
على عكس ما نعتقده أحيانا في أننا لا نتغير، نلاحظ أننا نتغير دائماً، لكن غالباً على غير النحو الذي نريد. نتغير كما تريد نفوسنا لا كما تريد عقولنا. إننا نتغير بسبب المعرفة وتجارب الحياة والخبرات والأهم بسبب ما جرينا وراءه. ما نطلبه نكونه. نكونه لا تعني أننا سنحصل عليه بالضرورة، تعني أننا نتغير فنشبه ما سعينا وراءه، نشبه أسوأ ما فيه أحياناً لأن لكل شيء ثمنه. نسعى وراء المال فيصيبنا الشح والجشع. نلهث وراء السلطة فنصبح متغطرسين ظلمة. نركض وراء الشهوات فيتملكنا الفسوق والخلاعة، يغرينا التملك فيملؤنا الحرص والحسد. نبتغي الشهرة فنصيب التفاهة والعُجب.
اختيار الأهداف الخيِّرة أكثر صعوبة لأن فيه عَدُوَّان: نفسك والشيطان يُخذِّلانِك عنه من جهة، و الله جل وعلا يعينك عليهما من جهة فتستجيب له مرة وتُدبِر مرات. تجذبنا المعرفة فنمرض بالتعالي والانغلاق. ننشد النور فنتعثر في الظلمة، نطلب التقوى فننتكس في الفجور. ثم إننا ننشد الكمال الذي هو أكثر تضليلاً من كل ذلك، نطلبه لأنه يبدو هدفاً لائقاً وراقياً وجديراً بالاحترام، لأننا نفتقر هذه الأشياء ربما. هذا الكمال المهني/الإنساني/الأخلاقي أشد خطراً لأنه ينطوي على الأمراض السابقة كلها وأكثر. لا شيء آمن، لا شيء نقيّ، كلّ ما نطلبه يتضمن اختبارا في أمراضه التي إمَّا نُشفى منها ونَطهُر أو تَعلَق بنا للأبد.
من نحن
نحلم "تأخذنا القصيدة من خرم إبرتنا لنغزل للفضاء عباءة الأفق الجديدة". ليست المشكلة أهدافنا الكبيرة وحسب بل حتى أهدافنا الصغيرة. إنها تتعلق دائما بشيء ما، تلهينا دائما بالخارج، بما ليس عندنا بما ليس نحن. حسناً ومن نحن؟ من أنت؟. سألت الكثير من طلابي هذا السؤال، وهم أناس أشدّ ضياعاً منا فيما يبدو إذ ينشدون لدينا حلولاً لمشكلاتهم.
هنالك "أنت" متعددون. "أنت" الذي يحبه البعض، و"أنت" آخر يبغضه البعض، و"أنت" الذي تعرفه في رضاك عن نفسك، وآخر عند سخطك عليها، وآخر اكتشفته مرة في ظرف استثنائي، وآخرون بلا حصر ولا عدد، فمن أنت؟ أنت لست واحداً منها دون الأخريات. أنت هي كلها وأكثر. كلما واتتك ظروفٌ مناسبة ربما تظهر أنت جديدة أو مختلفة. هذه "الأنات" الكثيرة متناقضة ولا بدّ - ولعل هذا يفسر تعاستنا – لكنها موجودة وإلا لم نكن لنراها. تشعر بالسلام والسكينة أكثر عندما تكون هذه الأنات أقل تشاكساً. لكنك تنتبه وتندهش حقاً بقدرة هذا البشري واحتمالاته اللانهائية. الإنسان في أصل تصميمه وخلقه مزوّدٌ بكل الاحتمالات "فألهمها فجورها وتقواها" وكل تجربة عنده تستفز فيه شيئاً معينا يكونه.
الاحتمال التاريخي
ما أصبحته أنت الآن هو الاحتمال التاريخي المتحقق من كل ممكناتك المحتملة. لو تغيرت الظروف ستتغير أنت – غالبا فلا أحد يمكن أن يعرف على وجه التأكيد ما الذي يطوي عليه المسار الآخر. لذلك عليك أن تنتبه عندما تتحدث عن نفسك إنك تتحدث فقط عن الاحتمال التاريخي، وليس أنت. الكامن لا زال موجودا عندك لم يُختَبر، لم يخرج، وهو جوهرٌ فريد لا يشبه أحداً آخر. عليك أن تشعر بالأسى عندما تعيش أسير هذا الاحتمال المحدود: فتُبغِض أشياء وأناس، وتحب أشياء وأناس، وتخشى أشياء وأناس، تتولد لديك عقدة من شيءٍ ما، أو تدمن شيئاً ما بسبب اعتيادك وتسليمك. تصير فعلا أسير هذا الاحتمال، رافضاً ذلك الغِنى الهائل اللانهائي في جماله وقدراته الذي بداخلك. عليك أن تتواصل مع جوهرك هذا وأن تستمد منه جمالك وقدرتك وتفرُّدك. لتفعل ذلك عليك أن تعرف في البداية من أنت.


كيف نعرف من نحن
علينا أن نعرف من نحن حقا، ليس من نريد أن نكون أو من نخشى أن نكون. علينا أن نتوقف قليلا لننظر إلى أنفسنا دون سعي لإصلاحها أو تجميلها أو إفسادها. أليس واضحاً أنه يتعين علينا قبل أن نُصلح شيئاً أن نعرف ما هو على الأقل. عندما سألت الطلاب ذلك السؤال كان واضحاً أنه ليس ممكنا العثور على الإجابة، ليس لأن السؤال جدليّ كما اعتقدت إحدى الشابات الذكيات، ولكن لأنه لا توجد إجابة صحيحة للسؤال، لا توجد إجابة يمكن التعبير عنها. علينا أن نعرف أنفسنا دون الاعتماد على أية تعبير أو لغة أو كلمات. لأن الكلمات تغير الحقائق.

هل يمكن أن نحيا حياة أفضل - 1


المسار الآخر والعَوْدُ الأبدي

أصبحت حياتنا معقدة وخشنة، أو لعلنا صرنا نحن معقدين وخشنين. نبحث عن الأفضل والأحسن والأكبر والأضخم وكلّ شيء. نريد أن نحصل على ما لا نحتاجه، نجمع ما لا/لن ننفقه، ندعي ما لا نعلم، ولا نعرف ما نريد في كثير من الأحيان. ماذا يحدث بالضبط؟.
الموت حياً على الهواء
كانت حياتنا قد تعقدت بالفعل منذ وقت طويل عندما صارت حدود معرفتنا أكبر من البيت، أكبر من القرية والوطن. الراديو والتلفزيون، وسعا نطاق الترفيه. وصار غير الجِدِّ، أهم من الجِدّ. يعمل الناس لينفقوا وقتهم وأموالهم في الترفيه: السينما، التلفزيون، الغناء ،كرة القدم، الرياضات المتنوعة، السياحة، والفُرجة، والاتصالات الهاتفية والدردشة. في العام 1991 نقلت شبكة سي إن إن الأمريكية الحرب على العراق على الهواء مباشرة لأول مرة في تاريخ البشرية، وجلس الناس أمام شاشات التلفزيون يشاهدون موت أناسٍ آخرينٍ. صار التلفزيون نموذجاً أضخم للكوليسيوم الروماني.
أحلام اكبر وصعوبات أكثر
كانت الصحف المطبوعة والسينما غيرت حياة الناس قبل ذلك فصاروا يهتمون لمعرفة أخبار البلاد البعيدة وآراء أناسٍ بعينهم في كل ما يحدث اسمهم الخبراء، لكنهم ليسوا من القرية ولا حكمائها. تغيرت الحياة فلم يعد الناس آمنون في بيتهم يذهبون إلى حقولهم أو مراعيهم ويعودون لبيوتهم ويعيشون حياتهم وحسب. "كنا نرى في النوم ما سنراه عند الفجر"(قصيدة الهدهد – محمود درويش). صارا يهتمون لكل ما يحدث في العالم من حروب ونجاحاتٍ أو سخف.
قبلها كان التعليم قد غيَّر حياة الناس، فمنح أفراداً عاديين، من العامة، فرصةً لتغيير واقعهم وحياتهم ومعاشهم، صاروا أطباء ومهندسين وأساتذة وعلماء يبارون النبلاء والأمراء والنُّظَّار. اهتز النظام الطبقي (القسري أو السلمي) للمجتمعات الإنسانية الساكنة لعصور طويلة وتحركت عجلة التغيير.
حسنا، ذلك كله لا يوازي ما عرف ب"ثورة الاتصالات" التي اجتاحت العالم منذ ثمانينيات القرن الماضي. الهواتف العادية والسيارة، والانترنت، والقنوات التلفزيونية التي لا حصر لها، بجاذبيتها التي لا تقاوم جعلت حياتنا أسهل وأصعب، أجمل وأقبح، أوضح وأغرب مما كانت عليه حياة أي أحدٍ من البشر الذين نعرف تاريخهم. ما نعرفه، وما نستطيع أن نعرفه، ما نعيشه من ترف وما نقدر عليه شيء لا يستطيعه ملوك العصور الوسيطة.

تشوُّش
صرنا مواطنين عالميين لا تؤرقنا قضايانا وحسب، وإنما كلّ أزمات البشرية، إذ نعرفها بالتفصيل، نتواصل مع أناس لم نرهم وربما لن نراهم أبداً. نكترث لهم ونهتم لأمرهم أكثر من جيراننا أو أهلنا. صرنا نعرف أكثر مما يجب فازددنا فراغاً، لأن المعرفة هي أن تدرك ما يهمك فعلا. الترفيه يقدم أكثر من المعرفة، التفاصيل التي لا قيمة لها عن أي شيء، وخصوصاً الناس والنجوم الذين نحسدهم بدل أن نشفق عليهم. الأثرياء والناجحون وأصحاب الأعمال الضخمة والنجوم الذين نعرف ألوان غرف نومهم وتفاصيل أكثر وأتفه، صاروا، بإغراء النجاح والمال، يشوشون رؤيتنا المضطربة أصلا لما نريد وما نحب وما نكون.
التفاهة
الابتكارات والأجهزة والسهولة والمعلومات اللانهائية التي تحت أيدينا لم تمنحنا حياة أفضل. صرنا أكثر قلقاً وخوفاً، وجهلاً. وكلما ازددنا قلقا وخوفا ازددنا سُعارا في طلب المزيد من كل شيء. نَفِرُّ إلى احتضان كل جديد، أو كل غامض قديم، أو البرمجة اللغوية العصبية أو نظرية السرّ علها تمنحنا شيئا من اليقين أو الكمال أو المعنى أو أي شيء. ولكننا لم نعثر إلا على شربةٍ لا تروي الظمأ، فالظمأ لكلِّ شيء ليس له رُوَاءٌ أبداً، مثله مثل الظمأ للاشيء. سُئل الكاتب الأمريكي المعروف آرثر ميلر ذات مرة، ماذا ترى عندما تنظر إلى حياتنا وعالمنا اليوم؛ فأجاب "التفاهة".
ما يُعَقِّدُ الأمر أكثر، أننا نحيا مرة واحدة ولا نتمتع بفرصة لتصحيح أي خطأ. مثل الرسام الذي يرسم الخطوط الرئيسية (الاسكتش) للوحة لكنه لا يكملها، فالخطوط هي اللوحة وحسب. لن تعرف مطلقا الاحتمال الآخر الذي لم تختاره، لن تعرف مطلقا أي شيء عن المسار الآخر، إلا الافتراض الساكن. والحياة ليست ساكنة، وإنما متفاعلة أبداً، متداخلة أبداً، مثل تفاعل نووي لا نهائي. الأعجب أنها تتفاعل حتى بعد موت الشخص، إذ يرونه في النوم أو اليقظة، أو يصلونه بالأعمال الصالحة، أو يمتد صلاحه ليُغيِّر حياة أحد أحفاده.
العود الابدي
طرح نيتشه فكرة العَوْدِ الأبدي، متسائلاً كيف تصبح قيمة حدثٍ معين لو أنه ظل يتكرر إلى الأبد. أحداث وأشخاص وأشياء ستفقد قيمتها التي اعتقدناها تستحقها، أحداث وأشخاص وأشياء ستكتسب قيمة لم نمنحها لها في المرة الأولى، سيتغير المنظور والقيم والدلالات للأحداث والتفاصيل ذلك ما لاحظه ميلان كونديرا.
المسار الآخر
لنمضي خطوة أبعد ونسأل كيف ستصبح حياتنا لو أمكن لنا أن نعرف لاحقاً، للعظة مثلاً، الاحتمال الآخر، الطريق الذي لم نسلكه. لعل حياتنا كانت ستغدو حافلة أكثر بالندم والخوف والاتعاظ الكاذب. ثم نمضي أبعد متسائلين كيف ستصبح حياتنا لو أمكن لنا، ليس دائما وإنما لعدد معين من المرات مثلا، أن نعرف مآلات الطريقين قبل أن نختار، ربما سنخطئ أقل ونتعثر أقل، في الحقيقة سنخطئ ونتعثر بشكل مختلف لأن اختبار الإنسان دائما هو الاختيار، الاختيار الذي ينبني على معطياته وذاته لا على الطريق، لأن الطريق كلها مفترقات طرق ومسارات متشعبة. لن تكون متأكداً من أن وظيفتك هذه الأفضل لك ولمواهبك على المدى الطويل أم أنها اختيار ذي عائد جيد فقط، لن تعرف لو أن هذه المرأة أحبتك أو خشيت الرفيق الآخر، لن تعرف إن كان ابنك يحترمك ويطيعك أم أنه يخشى العقاب الموعود، لن تعرف إن كان أصدقاؤك يحبونك بحق أم أنك اختيار أكثر أماناً ونفعاً لهم. إننا نحيا حياتنا مرة واحدة، لذلك ربما علينا أن نغتنمها كما هي. تقوم حياتنا الآن على الظن والاعتقاد والإيمان وعدم اليقين، وهذا جوهر اختبار الإنسان.
ليس الأمر أقل تعقيداً عما كان عليه في البداية. وفي النهاية، أو في البداية، ليست المشكلة أننا لا نعرف ما نريد، المشكلة هي أننا لا نعرف من نحن.
تذييل
عزيزي القارئ هذه هي الحلقة الأولى في البحث عن إمكانية أن نحيا حياة أفضل. أرجو أن تثير حواراً مفيداً وألا تعتبر رؤية منغلقة، فلعل أحدنا يعرف كيف نحيا حياة أفضل فنتعلم منه.