الثلاثاء، 15 فبراير 2011

هل يمكن أن نحيا حياة أفضل - 1


المسار الآخر والعَوْدُ الأبدي

أصبحت حياتنا معقدة وخشنة، أو لعلنا صرنا نحن معقدين وخشنين. نبحث عن الأفضل والأحسن والأكبر والأضخم وكلّ شيء. نريد أن نحصل على ما لا نحتاجه، نجمع ما لا/لن ننفقه، ندعي ما لا نعلم، ولا نعرف ما نريد في كثير من الأحيان. ماذا يحدث بالضبط؟.
الموت حياً على الهواء
كانت حياتنا قد تعقدت بالفعل منذ وقت طويل عندما صارت حدود معرفتنا أكبر من البيت، أكبر من القرية والوطن. الراديو والتلفزيون، وسعا نطاق الترفيه. وصار غير الجِدِّ، أهم من الجِدّ. يعمل الناس لينفقوا وقتهم وأموالهم في الترفيه: السينما، التلفزيون، الغناء ،كرة القدم، الرياضات المتنوعة، السياحة، والفُرجة، والاتصالات الهاتفية والدردشة. في العام 1991 نقلت شبكة سي إن إن الأمريكية الحرب على العراق على الهواء مباشرة لأول مرة في تاريخ البشرية، وجلس الناس أمام شاشات التلفزيون يشاهدون موت أناسٍ آخرينٍ. صار التلفزيون نموذجاً أضخم للكوليسيوم الروماني.
أحلام اكبر وصعوبات أكثر
كانت الصحف المطبوعة والسينما غيرت حياة الناس قبل ذلك فصاروا يهتمون لمعرفة أخبار البلاد البعيدة وآراء أناسٍ بعينهم في كل ما يحدث اسمهم الخبراء، لكنهم ليسوا من القرية ولا حكمائها. تغيرت الحياة فلم يعد الناس آمنون في بيتهم يذهبون إلى حقولهم أو مراعيهم ويعودون لبيوتهم ويعيشون حياتهم وحسب. "كنا نرى في النوم ما سنراه عند الفجر"(قصيدة الهدهد – محمود درويش). صارا يهتمون لكل ما يحدث في العالم من حروب ونجاحاتٍ أو سخف.
قبلها كان التعليم قد غيَّر حياة الناس، فمنح أفراداً عاديين، من العامة، فرصةً لتغيير واقعهم وحياتهم ومعاشهم، صاروا أطباء ومهندسين وأساتذة وعلماء يبارون النبلاء والأمراء والنُّظَّار. اهتز النظام الطبقي (القسري أو السلمي) للمجتمعات الإنسانية الساكنة لعصور طويلة وتحركت عجلة التغيير.
حسنا، ذلك كله لا يوازي ما عرف ب"ثورة الاتصالات" التي اجتاحت العالم منذ ثمانينيات القرن الماضي. الهواتف العادية والسيارة، والانترنت، والقنوات التلفزيونية التي لا حصر لها، بجاذبيتها التي لا تقاوم جعلت حياتنا أسهل وأصعب، أجمل وأقبح، أوضح وأغرب مما كانت عليه حياة أي أحدٍ من البشر الذين نعرف تاريخهم. ما نعرفه، وما نستطيع أن نعرفه، ما نعيشه من ترف وما نقدر عليه شيء لا يستطيعه ملوك العصور الوسيطة.

تشوُّش
صرنا مواطنين عالميين لا تؤرقنا قضايانا وحسب، وإنما كلّ أزمات البشرية، إذ نعرفها بالتفصيل، نتواصل مع أناس لم نرهم وربما لن نراهم أبداً. نكترث لهم ونهتم لأمرهم أكثر من جيراننا أو أهلنا. صرنا نعرف أكثر مما يجب فازددنا فراغاً، لأن المعرفة هي أن تدرك ما يهمك فعلا. الترفيه يقدم أكثر من المعرفة، التفاصيل التي لا قيمة لها عن أي شيء، وخصوصاً الناس والنجوم الذين نحسدهم بدل أن نشفق عليهم. الأثرياء والناجحون وأصحاب الأعمال الضخمة والنجوم الذين نعرف ألوان غرف نومهم وتفاصيل أكثر وأتفه، صاروا، بإغراء النجاح والمال، يشوشون رؤيتنا المضطربة أصلا لما نريد وما نحب وما نكون.
التفاهة
الابتكارات والأجهزة والسهولة والمعلومات اللانهائية التي تحت أيدينا لم تمنحنا حياة أفضل. صرنا أكثر قلقاً وخوفاً، وجهلاً. وكلما ازددنا قلقا وخوفا ازددنا سُعارا في طلب المزيد من كل شيء. نَفِرُّ إلى احتضان كل جديد، أو كل غامض قديم، أو البرمجة اللغوية العصبية أو نظرية السرّ علها تمنحنا شيئا من اليقين أو الكمال أو المعنى أو أي شيء. ولكننا لم نعثر إلا على شربةٍ لا تروي الظمأ، فالظمأ لكلِّ شيء ليس له رُوَاءٌ أبداً، مثله مثل الظمأ للاشيء. سُئل الكاتب الأمريكي المعروف آرثر ميلر ذات مرة، ماذا ترى عندما تنظر إلى حياتنا وعالمنا اليوم؛ فأجاب "التفاهة".
ما يُعَقِّدُ الأمر أكثر، أننا نحيا مرة واحدة ولا نتمتع بفرصة لتصحيح أي خطأ. مثل الرسام الذي يرسم الخطوط الرئيسية (الاسكتش) للوحة لكنه لا يكملها، فالخطوط هي اللوحة وحسب. لن تعرف مطلقا الاحتمال الآخر الذي لم تختاره، لن تعرف مطلقا أي شيء عن المسار الآخر، إلا الافتراض الساكن. والحياة ليست ساكنة، وإنما متفاعلة أبداً، متداخلة أبداً، مثل تفاعل نووي لا نهائي. الأعجب أنها تتفاعل حتى بعد موت الشخص، إذ يرونه في النوم أو اليقظة، أو يصلونه بالأعمال الصالحة، أو يمتد صلاحه ليُغيِّر حياة أحد أحفاده.
العود الابدي
طرح نيتشه فكرة العَوْدِ الأبدي، متسائلاً كيف تصبح قيمة حدثٍ معين لو أنه ظل يتكرر إلى الأبد. أحداث وأشخاص وأشياء ستفقد قيمتها التي اعتقدناها تستحقها، أحداث وأشخاص وأشياء ستكتسب قيمة لم نمنحها لها في المرة الأولى، سيتغير المنظور والقيم والدلالات للأحداث والتفاصيل ذلك ما لاحظه ميلان كونديرا.
المسار الآخر
لنمضي خطوة أبعد ونسأل كيف ستصبح حياتنا لو أمكن لنا أن نعرف لاحقاً، للعظة مثلاً، الاحتمال الآخر، الطريق الذي لم نسلكه. لعل حياتنا كانت ستغدو حافلة أكثر بالندم والخوف والاتعاظ الكاذب. ثم نمضي أبعد متسائلين كيف ستصبح حياتنا لو أمكن لنا، ليس دائما وإنما لعدد معين من المرات مثلا، أن نعرف مآلات الطريقين قبل أن نختار، ربما سنخطئ أقل ونتعثر أقل، في الحقيقة سنخطئ ونتعثر بشكل مختلف لأن اختبار الإنسان دائما هو الاختيار، الاختيار الذي ينبني على معطياته وذاته لا على الطريق، لأن الطريق كلها مفترقات طرق ومسارات متشعبة. لن تكون متأكداً من أن وظيفتك هذه الأفضل لك ولمواهبك على المدى الطويل أم أنها اختيار ذي عائد جيد فقط، لن تعرف لو أن هذه المرأة أحبتك أو خشيت الرفيق الآخر، لن تعرف إن كان ابنك يحترمك ويطيعك أم أنه يخشى العقاب الموعود، لن تعرف إن كان أصدقاؤك يحبونك بحق أم أنك اختيار أكثر أماناً ونفعاً لهم. إننا نحيا حياتنا مرة واحدة، لذلك ربما علينا أن نغتنمها كما هي. تقوم حياتنا الآن على الظن والاعتقاد والإيمان وعدم اليقين، وهذا جوهر اختبار الإنسان.
ليس الأمر أقل تعقيداً عما كان عليه في البداية. وفي النهاية، أو في البداية، ليست المشكلة أننا لا نعرف ما نريد، المشكلة هي أننا لا نعرف من نحن.
تذييل
عزيزي القارئ هذه هي الحلقة الأولى في البحث عن إمكانية أن نحيا حياة أفضل. أرجو أن تثير حواراً مفيداً وألا تعتبر رؤية منغلقة، فلعل أحدنا يعرف كيف نحيا حياة أفضل فنتعلم منه.

ليست هناك تعليقات: