الخميس، 26 فبراير 2009

بعد رحيل الطيب صالح

فِي ذِكرَى أُمّ الحَسَن وَبِت حَمْدُون

** (روي أن معروف الكرخي رأى رجلا وليس بإنسان فقال له: من أنت؟ قال: ملكٌ بعثني الله لأكتب المحبين؟ فسأله: هل أنا فيهم؟ قال: لا؟ فقال: اكتبني فيمن يحب المحبين. فأوحى الله سبحانه وتعالى للملك : اكتبه أول المحبين؟ ). إهداء لمن أنعم الله عليهم بمحبة من يحب المحبين ، ولكل من حَزِن أو رَقَّ لغياب الطيب صالح ممن عرفوا قيمته أو ظنوا.
قبل وقت قريب كنا جماعة نتحدث : لماذا صار الناس يموتون أكثر مما كانوا يموتون من قبل؟ هل لأن البشر على هذه الأرض صاروا كثيرين جدا؟ أم لأننا صرنا نكترث للموت أكثر؟ أم لأن الموت صار أكثر تنوعاً من ذي قبل؟ أم لأن الموت الآن يذاع في الراديو والتلفزيون والصحف؟
اتفقنا على أن الموت كثُر، رغم أننا صرنا نرفع (الفُراش) في يومه ولا نُعز أمواتنا بالأسبوع ولا الأربعين. هل صار الموت والفقد أهون علينا مما كان؟ ربما، فلا يوم يمر عليك دون موت قريبٍ لك أو قريب لأحد معارفك في العمل أو الحي. اعتقدت أيضا أن الموت لم يعد بالقوة التي كان عليها في وجداننا لأننا نعرف ونحس ونتعاطف مع عددٍ أكبر من الناس، أهلنا وأصدقاؤنا وزملاؤنا وأهلهم، وضحايا ما تجنيه البشرية من مآسي في كل بقاع الأرض. صرنا نعرف أكثر ونتألم أكثر مع أهل غزة وضحايا تسونامي وحتى الضعفاء المحرومين في الأفلام والمسلسلات. هل صرنا أكثر إنسانية؟ لا، ربما صرنا أكثر وحشية. البعض يرتكب فظائع القتل والبعض يرتكب فظائع النشر الجارح. لكن الإعلام أيضا عرفنا بالكثير من البشر الرائعين ماركيز ودرويش ومارلون براندو وجوني ديب، والأهم الطيب صالح. العجيب أننا نعرف عن بعضهم أكثر مما نعرف عن أقاربنا، أو هكذا نتخيل.
لقد حزنت مثل كثيرين على غياب الطيب صالح، رغم إنني مثل كثيرين لم أعرفه عن قرب، ولم ألتقه مطلقا، بل أقرب ما كنت إليه حين كان يتحدث في التلفزيون. لا أدري لماذا لكنه كان حزناً لم أعرفه منذ العام الذي فقدت فيه جدتي الاثنتين. لم أعرف الحزن لموت جديَّ لأنهما توفيا قبل مولدي بعشرين عاما أو نحوها.
سألت نفسي: كيف يمكن أن تحزن هكذا على شخص لم تكن قريبا منه؟ هل لأنك تعتقد أنك كنت تعرفه؟. قبل شهور قليلة غيب الموت عنا الشاعر الكبير محمود درويش وهو رجل يكن له الكثير من الناس في العالم العربي، وأنا منهم، تقديراً ومودةً ومحبةً كبيرة. ربما الطيب ومحمود كان جدين بديلين يحدثاني عن الحياة والإنسان وما يستحق.

لماذا تعتقد أنك تعرف كاتبا لا تعرفه مثلما تعرف جدتك التي تعرفها؟ هل يمكن لأحد أن يكون في مقامها أو صلتها أو قربها. لا أحد مثل الجدة، إطلاقا. وفي زمان رخيٍّ أدركت بعضه كنا نسميها"الحبوبة" وهو اسم لم يشتق من الأمومة وإنما من المقام الأرقى الذي تنتهي إليه الأمومة، المحبة والحنان. هذا الاسم العجيب يعني من وجه (الذي يعطي من الحب بلا حدود)، ويعني أيضا في الجانب الآخر من المعنى، (كل رقيق جدير بالحب).
هل كان الطيب يشبه الحبوبات؟
نعم، وللجميع، حتى أولئك الذين لم يدركوا زمان الحبوبات. يمنحك ما تمنحه الحبوبات: الأنس وحسن الصحبة والبريق الذي يغمر عيوننا عندما نعتقد أننا عرفنا سر الأشياء كلها. بين (أحاجيهن) و رواياته شبه الأصل ببعضه.
ما يجمع بين أحاجي الحبوبات والروايات المعقدة للكتاب الكبار، القدرة على تمييز الأشياء المهمة من غيرها، والفهم العميق للإنسان، والقدرة على الحكم على الناس والمواقف والأحداث، والقدرة على الخلق والابتكار، وما يلسع وجدانك.
لكن لماذا تحس بشبه أكبر بينه وبين جدتك؟ ربما، مثل جدتك، لأن صحبته ممتعة وشفيفة ورقيقة وحانية، ربما لأنه يتجاوز سطح الأشياء فيمنح لما نرى طعما لا نتذوقه في العادة. ربما لأنه مثلها يحقق رغباتك التي تتعارض مع ما يعتقد الوالدان او العقل والحكمة، تمنحك الحلوى و(القروش) ولا تهتم لأسنانك. ربما لأن فيه رائحة الجدة حين تعطن وجهك في نحرها فتغرق في عطرٍ لا يمكن أن يصنعه أحد، لأنها جزء منه، أو هو في الحقيقة جزء منها. ومثل جدتك التي كانت بحنان لا يوصف تضمك إليها حتى صرت تحفظ وتحب كل التجاعيد على وجهها ويديها؛ وتجود عليك بما لا يمنحه أحد سواها، الوقت والاهتمام والمعرفة؛ يخصك هو بالأسرار والأفكار وما لا يمكن أن ينسبه لنفسه على لسانه. صرت تعرف وجوهه العديدة واحتمالاته اللامتناهية، التي يحبها أو يبغضها، فبداخل كل منا فيه ما يحبه ويبغضه. ربما لأنه مثل جدتك التي تعرف بعد هذه الحياة الطويلة ما يهم وما لا يهم، ما يستحق وما لا يستحق، وتعرف ما لا ندرك قيمته إلا بعد فواته. لذلك لا تخشى فعلا ولا مقالة من أحد، تفعل ما تشاء وعلى الآخرين أن يرتبوا حالهم لإرضائها أو يلوذوا بالصمت العاجز. ربما، مثل جدتك، يعرف أن الحياة هي الآن وهي ما تتعلق به وما تدركه وما تحياه، فلِمَ تقلق بشأن أسنانك بعد عشرين أو خمسين عاما. يقضي الانسان طفولته يحلم بان يصير رجلا، وعندما يبلغ مبلغ الرجال يتمنى لو يعود طفلا كما كان، فلا هو عاش طفولته بحقها ولا هو انتفع برشده كما ينبغي.
ربما لأنه، مثل جدتك التي تجعل الحياة أجمل مما هي عليه في الواقع لأنها تعرف الجمال الحق والحياة الحقيقية، ولأنها تستطيع أن تبصر الجمال في وسط القبح وتنتبه للقبح المغطى بالجمال، ومن غيرها يمكن أن يزعم ذلك وقد عاشتها ورأت فيها كل ما يُرَى.
ربما لأنه، مثل جدتك ، منحك أفضل ما عنده، أخذ من روحه ونفسه وعقله وحياته وبذلها إكراما لك. جاد عليك في زمان جهلك بأغلى ما وصل إليه في أوان حكمته.

ربما لأنه مثل جدتك التي تشع حناناً ومعرفةً بالحياة، يعرف ويتفهم الخير والشر كيف يعملان داخل الإنسان وكيف ينتصر احدهما على الآخر؛ ولأنه يتفهم ذلك ولعله يتعاطف معنا بروحه الواسعة حينما لا نفعل الخير عجزاً أو غباء ويأسو علينا عندما نتركه طمعاً أو كذباً أو كبراً.
إنه مثل جدتي في أشياء كثيرة لكنها تتفوق عليه في الذكريات الشخصية التي تبقى بعض صورها برغم تقادم العمر وتبهت أخرى. لكن الطيب يتفوق على جدتي في حياته الممتدة على صفحات الكتب، فلا زال بإمكاني أن أعود إليه (ليحجيني) وقتما أشاء. وهو أمر يُسَرِّي عني كثيرا إلى حد يمكنني من الزعم أن علاقتنا لم ولن تهتز، فقد كانت عبر صفحات الكتب دائما، بل ربما تصبح أفضل مما كانت عليه مع تقدم العمر وزيادة الوعي والتجربة، ومع الحنين إليه فقد كنت أرجو أن ألتقيه يوما ولو لقاءاً عابرا.
وما لم تكن على عينيك غشاوةٌ ما، كان الطيب صالح رجلا لا تملك إلا أن تحبه. كان عندما تراه (في الواقع أو التلفزيون) تشعر بأنك تعرفه لأنه ينضح بالألفة والحنان والحب بلا مقابل، وينضح بشيء عزَّ أن يملكه الناس الآن، التواضع الجم.
وما التواضع، أظُنُّه، إلا خلاصة الإيمان حينما تدرك أنك عند الله ضعيف وفقير وعاجز، وليس ثمة أنت أو أي أحدٍ تتكبر عليه، وإنما أشخاص ضعاف فقراء عاجزين مثلك تشفق عليهم وعلى نفسك. وأنا أتأمل من ضعتي هذا المقام حدثث نفسي (وددت لو أني ممسك بخطام فرسه) فحدثتني (لا تغتر فلست أهلا) فأطرقت في الأرض (اكتبني فيمن يحب المحبين) وحسبي.
يموت الناس فينتقلون إلى رصيف الانتظار ريثما تبدأ الحياة الحقيقية، وقد نزلوا جميعا (الطيب وجدتاي ودرويش) عند كريمٍ فلا خشية عليهم، وإنما الخشية لو بقوا بيننا. لعل الطيب الآن في راحة من عناء الكلي وآلام الجسد وإشفاقه على إشفاق من حوله وهم يعانون معه (لا كرب على أبيك بعد اليوم). لعله يتبسَّم الآن وقد تخلص من عناء الجسد الذي عجز بعد ثمانين عاما عن احتواء الروح التي لا يسعها حد. لعله هناك مع الحنين وود دوليب المتجاوزين ما نرى والرائين ما لا نرى. ولعل درويش يشعر بالراحة من المشوار الطويل، لم يجد خبز أمه لكن لعله معها متعلقا بثوبها، لا تبكي عليه ولا يبكي عليها.
ولعل جدتاي تنظران إلي من علٍ، راضيتان إذ وجدت من يؤنسني (ويحجيني)، تنتظران عندما أصير جداً وأعرف ما كن يعرفن وأشعر بما كن يشعرن به، وحينها أدرك حقا من كن. ولأني أحببتهم لست حزيناً عليهم، وإنما حزنت على نفسي لأني لن ألتقيهم بعد اليوم على هذه الأرض. في الحقيقة لا يجب أن أكون حزينا فقد مُنحت محبتهم وهي مِنَّةٌ غالية.

ليست هناك تعليقات: