الخميس، 26 فبراير 2009

بعد رحيل الطيب صالح

فِي ذِكرَى أُمّ الحَسَن وَبِت حَمْدُون

** (روي أن معروف الكرخي رأى رجلا وليس بإنسان فقال له: من أنت؟ قال: ملكٌ بعثني الله لأكتب المحبين؟ فسأله: هل أنا فيهم؟ قال: لا؟ فقال: اكتبني فيمن يحب المحبين. فأوحى الله سبحانه وتعالى للملك : اكتبه أول المحبين؟ ). إهداء لمن أنعم الله عليهم بمحبة من يحب المحبين ، ولكل من حَزِن أو رَقَّ لغياب الطيب صالح ممن عرفوا قيمته أو ظنوا.
قبل وقت قريب كنا جماعة نتحدث : لماذا صار الناس يموتون أكثر مما كانوا يموتون من قبل؟ هل لأن البشر على هذه الأرض صاروا كثيرين جدا؟ أم لأننا صرنا نكترث للموت أكثر؟ أم لأن الموت صار أكثر تنوعاً من ذي قبل؟ أم لأن الموت الآن يذاع في الراديو والتلفزيون والصحف؟
اتفقنا على أن الموت كثُر، رغم أننا صرنا نرفع (الفُراش) في يومه ولا نُعز أمواتنا بالأسبوع ولا الأربعين. هل صار الموت والفقد أهون علينا مما كان؟ ربما، فلا يوم يمر عليك دون موت قريبٍ لك أو قريب لأحد معارفك في العمل أو الحي. اعتقدت أيضا أن الموت لم يعد بالقوة التي كان عليها في وجداننا لأننا نعرف ونحس ونتعاطف مع عددٍ أكبر من الناس، أهلنا وأصدقاؤنا وزملاؤنا وأهلهم، وضحايا ما تجنيه البشرية من مآسي في كل بقاع الأرض. صرنا نعرف أكثر ونتألم أكثر مع أهل غزة وضحايا تسونامي وحتى الضعفاء المحرومين في الأفلام والمسلسلات. هل صرنا أكثر إنسانية؟ لا، ربما صرنا أكثر وحشية. البعض يرتكب فظائع القتل والبعض يرتكب فظائع النشر الجارح. لكن الإعلام أيضا عرفنا بالكثير من البشر الرائعين ماركيز ودرويش ومارلون براندو وجوني ديب، والأهم الطيب صالح. العجيب أننا نعرف عن بعضهم أكثر مما نعرف عن أقاربنا، أو هكذا نتخيل.
لقد حزنت مثل كثيرين على غياب الطيب صالح، رغم إنني مثل كثيرين لم أعرفه عن قرب، ولم ألتقه مطلقا، بل أقرب ما كنت إليه حين كان يتحدث في التلفزيون. لا أدري لماذا لكنه كان حزناً لم أعرفه منذ العام الذي فقدت فيه جدتي الاثنتين. لم أعرف الحزن لموت جديَّ لأنهما توفيا قبل مولدي بعشرين عاما أو نحوها.
سألت نفسي: كيف يمكن أن تحزن هكذا على شخص لم تكن قريبا منه؟ هل لأنك تعتقد أنك كنت تعرفه؟. قبل شهور قليلة غيب الموت عنا الشاعر الكبير محمود درويش وهو رجل يكن له الكثير من الناس في العالم العربي، وأنا منهم، تقديراً ومودةً ومحبةً كبيرة. ربما الطيب ومحمود كان جدين بديلين يحدثاني عن الحياة والإنسان وما يستحق.

لماذا تعتقد أنك تعرف كاتبا لا تعرفه مثلما تعرف جدتك التي تعرفها؟ هل يمكن لأحد أن يكون في مقامها أو صلتها أو قربها. لا أحد مثل الجدة، إطلاقا. وفي زمان رخيٍّ أدركت بعضه كنا نسميها"الحبوبة" وهو اسم لم يشتق من الأمومة وإنما من المقام الأرقى الذي تنتهي إليه الأمومة، المحبة والحنان. هذا الاسم العجيب يعني من وجه (الذي يعطي من الحب بلا حدود)، ويعني أيضا في الجانب الآخر من المعنى، (كل رقيق جدير بالحب).
هل كان الطيب يشبه الحبوبات؟
نعم، وللجميع، حتى أولئك الذين لم يدركوا زمان الحبوبات. يمنحك ما تمنحه الحبوبات: الأنس وحسن الصحبة والبريق الذي يغمر عيوننا عندما نعتقد أننا عرفنا سر الأشياء كلها. بين (أحاجيهن) و رواياته شبه الأصل ببعضه.
ما يجمع بين أحاجي الحبوبات والروايات المعقدة للكتاب الكبار، القدرة على تمييز الأشياء المهمة من غيرها، والفهم العميق للإنسان، والقدرة على الحكم على الناس والمواقف والأحداث، والقدرة على الخلق والابتكار، وما يلسع وجدانك.
لكن لماذا تحس بشبه أكبر بينه وبين جدتك؟ ربما، مثل جدتك، لأن صحبته ممتعة وشفيفة ورقيقة وحانية، ربما لأنه يتجاوز سطح الأشياء فيمنح لما نرى طعما لا نتذوقه في العادة. ربما لأنه مثلها يحقق رغباتك التي تتعارض مع ما يعتقد الوالدان او العقل والحكمة، تمنحك الحلوى و(القروش) ولا تهتم لأسنانك. ربما لأن فيه رائحة الجدة حين تعطن وجهك في نحرها فتغرق في عطرٍ لا يمكن أن يصنعه أحد، لأنها جزء منه، أو هو في الحقيقة جزء منها. ومثل جدتك التي كانت بحنان لا يوصف تضمك إليها حتى صرت تحفظ وتحب كل التجاعيد على وجهها ويديها؛ وتجود عليك بما لا يمنحه أحد سواها، الوقت والاهتمام والمعرفة؛ يخصك هو بالأسرار والأفكار وما لا يمكن أن ينسبه لنفسه على لسانه. صرت تعرف وجوهه العديدة واحتمالاته اللامتناهية، التي يحبها أو يبغضها، فبداخل كل منا فيه ما يحبه ويبغضه. ربما لأنه مثل جدتك التي تعرف بعد هذه الحياة الطويلة ما يهم وما لا يهم، ما يستحق وما لا يستحق، وتعرف ما لا ندرك قيمته إلا بعد فواته. لذلك لا تخشى فعلا ولا مقالة من أحد، تفعل ما تشاء وعلى الآخرين أن يرتبوا حالهم لإرضائها أو يلوذوا بالصمت العاجز. ربما، مثل جدتك، يعرف أن الحياة هي الآن وهي ما تتعلق به وما تدركه وما تحياه، فلِمَ تقلق بشأن أسنانك بعد عشرين أو خمسين عاما. يقضي الانسان طفولته يحلم بان يصير رجلا، وعندما يبلغ مبلغ الرجال يتمنى لو يعود طفلا كما كان، فلا هو عاش طفولته بحقها ولا هو انتفع برشده كما ينبغي.
ربما لأنه، مثل جدتك التي تجعل الحياة أجمل مما هي عليه في الواقع لأنها تعرف الجمال الحق والحياة الحقيقية، ولأنها تستطيع أن تبصر الجمال في وسط القبح وتنتبه للقبح المغطى بالجمال، ومن غيرها يمكن أن يزعم ذلك وقد عاشتها ورأت فيها كل ما يُرَى.
ربما لأنه، مثل جدتك ، منحك أفضل ما عنده، أخذ من روحه ونفسه وعقله وحياته وبذلها إكراما لك. جاد عليك في زمان جهلك بأغلى ما وصل إليه في أوان حكمته.

ربما لأنه مثل جدتك التي تشع حناناً ومعرفةً بالحياة، يعرف ويتفهم الخير والشر كيف يعملان داخل الإنسان وكيف ينتصر احدهما على الآخر؛ ولأنه يتفهم ذلك ولعله يتعاطف معنا بروحه الواسعة حينما لا نفعل الخير عجزاً أو غباء ويأسو علينا عندما نتركه طمعاً أو كذباً أو كبراً.
إنه مثل جدتي في أشياء كثيرة لكنها تتفوق عليه في الذكريات الشخصية التي تبقى بعض صورها برغم تقادم العمر وتبهت أخرى. لكن الطيب يتفوق على جدتي في حياته الممتدة على صفحات الكتب، فلا زال بإمكاني أن أعود إليه (ليحجيني) وقتما أشاء. وهو أمر يُسَرِّي عني كثيرا إلى حد يمكنني من الزعم أن علاقتنا لم ولن تهتز، فقد كانت عبر صفحات الكتب دائما، بل ربما تصبح أفضل مما كانت عليه مع تقدم العمر وزيادة الوعي والتجربة، ومع الحنين إليه فقد كنت أرجو أن ألتقيه يوما ولو لقاءاً عابرا.
وما لم تكن على عينيك غشاوةٌ ما، كان الطيب صالح رجلا لا تملك إلا أن تحبه. كان عندما تراه (في الواقع أو التلفزيون) تشعر بأنك تعرفه لأنه ينضح بالألفة والحنان والحب بلا مقابل، وينضح بشيء عزَّ أن يملكه الناس الآن، التواضع الجم.
وما التواضع، أظُنُّه، إلا خلاصة الإيمان حينما تدرك أنك عند الله ضعيف وفقير وعاجز، وليس ثمة أنت أو أي أحدٍ تتكبر عليه، وإنما أشخاص ضعاف فقراء عاجزين مثلك تشفق عليهم وعلى نفسك. وأنا أتأمل من ضعتي هذا المقام حدثث نفسي (وددت لو أني ممسك بخطام فرسه) فحدثتني (لا تغتر فلست أهلا) فأطرقت في الأرض (اكتبني فيمن يحب المحبين) وحسبي.
يموت الناس فينتقلون إلى رصيف الانتظار ريثما تبدأ الحياة الحقيقية، وقد نزلوا جميعا (الطيب وجدتاي ودرويش) عند كريمٍ فلا خشية عليهم، وإنما الخشية لو بقوا بيننا. لعل الطيب الآن في راحة من عناء الكلي وآلام الجسد وإشفاقه على إشفاق من حوله وهم يعانون معه (لا كرب على أبيك بعد اليوم). لعله يتبسَّم الآن وقد تخلص من عناء الجسد الذي عجز بعد ثمانين عاما عن احتواء الروح التي لا يسعها حد. لعله هناك مع الحنين وود دوليب المتجاوزين ما نرى والرائين ما لا نرى. ولعل درويش يشعر بالراحة من المشوار الطويل، لم يجد خبز أمه لكن لعله معها متعلقا بثوبها، لا تبكي عليه ولا يبكي عليها.
ولعل جدتاي تنظران إلي من علٍ، راضيتان إذ وجدت من يؤنسني (ويحجيني)، تنتظران عندما أصير جداً وأعرف ما كن يعرفن وأشعر بما كن يشعرن به، وحينها أدرك حقا من كن. ولأني أحببتهم لست حزيناً عليهم، وإنما حزنت على نفسي لأني لن ألتقيهم بعد اليوم على هذه الأرض. في الحقيقة لا يجب أن أكون حزينا فقد مُنحت محبتهم وهي مِنَّةٌ غالية.

السينما في وعي المسلمين

فِي ذِكْرَى مُصْطَفَى العَقَّاد

مدخل
في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، استطاع المخرج السوري الكبير مصطفى العقاد (رحمه الله رحمة واسعة وأحسن إليه) أن يقنع الممثل الكبير أنتوني كوين بأن يؤدي دور حمزة بن عبد المطلب في فيلم يحكي قصة الرسول الأعظم (ص) وبداية الإسلام. كان العقاد حينها منتجا ومخرجا مقدراً في هوليوود وكان معروفاً بأعماله الناجحة تجاريا في سلسلة أفلام الرعب Halloween. لذلك فقد كان الانتقال إلى إنتاج فيلم عن الإسلام ونبيه الكريم (ص)، ولا يزال، مفارقة كبيرة في السيرة المهنية لصاحب الفيلم. كان الانتقال في وجدان المخرج وفكره كبيرا، وكان التزامه بإنجاز هذا المشروع عملا جريئا ومقدرا، على الأقل ضمن طاقمه الهوليوودي الذي لم تثنه أية مخاوف عن إتمام مهمتهم الغريبة عليهم وعلى هوليوود كذلك.
الظروف
لأجل فيلم الرسالة استقطب العقاد فريقا من 28 جنسية حول العالم. وبالنظر إلى التوقيت العجيب للفيلم، بعد حرب أكتوبر والحظر النفطي الذي نفذته الدول العربية (للمرة الأولى والأخيرة) على الولايات المتحدة، والتشويه الذي تلاه لصورة العرب والمسلمين في الإعلام الأمريكي والسينما، يبدو انجاز هذا الفيلم نجاحا كبيرا جدا ومدهشا إلى حد بعيد. كيف لا وهذا الفيلم الذي يعتبر أول فيلم سينمائي إسلامي على الإطلاق لم يُنتج في العالم العربي أو الإسلامي، بل في هوليوود الأمريكية نفسها، بعيد الحرب والحظر والتشويه. لا بد أن الموافقة على العمل في هذا الفيلم تطلبت قوة غير عادية وشجاعة غير مسبوقة من أنتوني كوين وبقية الطاقم برغم كونهم قد عملوا في أفلام عن الثقافات والشعوب الأخرى من قبل. لم يكن الوقت ليكون أسوأ، اللهم إلا بعد أحداث سبتمبر 2001، لكنها كانت في رحم الغيب حينها، أما في عالم الشهادة فقد كانت الظروف الأصعب والأسوأ.
المدهش والمعجز حقا أنه وبعد ثلاثين عاما لا يزال هذا الفيلم هو الفيلم السينمائي الوحيد باللغة الانجليزية الذي يتحدث عن النبي (ص) وأنتج في هوليوود، لذلك ، والعلم عند الله، ربما يظل الفيلم الوحيد إلى أن يرث الله الأرض.
قال العقاد (إن إنتاج هذا الفيلم هو بدرجة ما مسألة شخصية. فبجانب قيمته الموضوعية فإن به كل شيء قصة ودراما ودسائس. بجانب كل هذا فإنني كمسلم عشت معظم حياتي في الغرب، شعرت أن واجبي والمفروض علي أن أعرِّف بحقيقة الإسلام. هناك نحو 700 مليون مسلم في العالم وبرغم ذلك، من بين كل الأديان، يعلم الناس القليل جدا عن الإسلام. فكرت أن علي أن اروي هذه القصة لابني جسرا بين الإسلام والغرب). من الواضح أن العقاد ليس داعية أو رجل دين لكنه فعل ما يفعل المسلم العادي، قام بواجبه في التعريف بدينه لمن حوله بالطريقة التي يعرفها. في الإسلام لا توجد طبقة لرجال الدين ولا يوجد أناس مكلفون دون غيرهم بأداء الخطاب الديني، بل على العكس إن تبليغ الإسلام كله أو بعضه واجب كل مسلم وحقه الذي لا يُنْكَر. يُبَلِّغ المسلم ما يعرفه عن دينه (ولو آية) ولعله لا ينتظر أن يعرف الآية الثانية ليبلغها فالأمر في الأولى. كان العقاد رجلا (فقيها) في الفن السينمائي و(عالما) بأدواته وشروطه وأسراره، لذلك فقد أحسن العمل الذي قدمه (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) ، وهو أمر معجز بمقياس هوليوود نفسها، لأنه صنع فيلما عن شخصية لا ترى في الفيلم إطلاقا، بينما لم تقف هوليوود عند تجسيد الأنبياء فجسدت الرب في ممثل.
لكن، نحن الذين شاهدنا الفيلم في شريط الفيديو بعد سنوات طويلة متكئين على السُرُر والطنافس، ربما يراودنا الاعتقاد بأن الأمر كان سهلا. على العكس كان هذا أصعب عمل يمكن أن ينجز. كان الفيلم مرفوضا عند الجميع : هوليوود التي أُنتِج فيها وعند رجال الدين المسلمين على حد سواء.
كان الفيلم يعرض موضوعا غير مقبول أو مرغوب فيه بالأساس في أوساط هوليوود بثقافتها المسيحية اليهودية من جهة والترفيهية المتحررة من القيم من جهة أخرى. أيضا لم تتم الموافقة على مشروعية الفيلم في دول العالم الإسلامي إلا من مؤسستين، هما الأكثر تحررا في التجربة الدينية، جامعة الأزهر بمصر والمجلس الشيعي الأعلى بلبنان. ساهمت الموافقة بإعطاء صفة شرعية على المحتوى المحدد في الفيلم، لكنها لم تكن كافية لعرض الفيلم في دور السينما في العالم الإسلامي!! فقد حظر الفيلم في العديد من الدول الإسلامية في الشرق الأوسط لرفضهم الأصلي لفكرة عرض حياة النبي (ص) على الشاشة.
لا يهم كون الفيلم سيتحدث عن سماحة الإسلام وحقائقه في وجه الدعاوى المغرضة. لا يهم كون الفيلم أفضل وسيط تنويري للإنسان الغربي، المهووس بالسينما، في التعريف بالإسلام. لم يكن مهما تجاوز القيود (ضرر أصغر) لدرء الضرر الأكبر الواقع بتشويه الإسلام وأهله. لم يكن مهما حتى التزام الفيلم بالقيود الجوهرية الأساسية محل الاعتراض. لم يكن لأي شيء أن يكون مهما، المهم هو التطهرية المسيحية التي اعتنقها بعض الشيوخ والفقهاء المعاصرين المتنطعين بحرصهم على أصالة الإسلام، فلا يفرقون بين رسالة الإسلام الأصيلة وعادات عبس وذبيان. المفارقة بالغة الغرابة أن العالم الإسلامي واصل إنتاج أفلامه السينمائية الركيكة والمتفسخة وواصل تسويقها وعرضها، فالسينما أصلا عند هؤلاء الفقهاء فنٌ منحرفٌ وضال في أصله، فلا جَرَم إن تحدثث عن الضلال أو عرضته فهذا شأنها وما يليق بها (وهذا يسوغ تحريمهم ويبقى كل في دائرته). إذن لا يمكن السماح لهذا الضلال والفسق أن يشوه ويدنس الرسالة النقية والمنزهة. كان الحظر أسلم لهم وأحوط وأنقى ... وأسهل. لا احد يري أن السينما في العالم الإسلامي يجب أن تشرح القرآن أو تدرس العبادات، لكن على السينما أن تعبر عن الهموم الكبيرة لأمتها، والدين بطبيعة الحال أهم هذه الهموم. هذا الموقف يجسد المأزق المعاصر والمستقبلي للسينما في العالم الإسلامي القديم.
بعد أحداث سبتمبر كان الخطاب الأبرز الموجه الغرب هو رسائل أسامة بن لادن. الغريب أن الفنان مصطفى العقاد حدَّث الغرب عن السلام وحكى لهم قصة النبي، أما الشيخ بن لادن فقد اعتبرهم أعداء وتعهد بأن يؤذيهم، لعل أفضل ما يجسد الفوضى والسخرية والدهشة أن العقاد مات مقتولا على يد مفجري القاعدة وحلفائها.
تحدث الناقد المعروف جون نيزبيت عن الفيلم (تقاعست هوليوود عن إنتاج فيلم يرفض ظهور الشخصية الرئيسية فيه على الشاشة، ويتحدث عن الدين الأقل معرفة لدى الأمريكان العاديين. لكن المخرج والمنتج الإسلامي مصطفى العقاد وضع الرسالة في قالب من الحب ليتمكن من رواية الحقيقة بشأن الإسلام. ومع التزامه بشكل صارم بتعاليم الدين وجد العقاد طريقة ليحكي قصة النبي المؤسس دون أن يظهر صورته أو صورة أي من الشخصيات المركزية مثل صهره علي، ولقد نجح في ذلك. ولعل هذا هو سبب حصول الفيلم على موافقة المجلس الشيعي الأعلى في لبنان وجامعة الأزهر). عدا مسألة الالتزام بهذه المحددات للحصول على الموافقة الشرعية، فان هذه القيود تصعب بالأساس من إمكانية انجاز العمل الفني بشكل لا ينتقص من جاذبيته وجماله وشاعريته وتشويقه للجمهور، لكنها لا تجعله مستحيلا كما اثبت العقاد.
يلاحظ نيزبيت (تبدو هذه التعاليم متشددة جدا لأن الأفلام علمنت اليهودية والمسيحية إلى حد أدام الأفكار الخاطئة حول الأنبياء المؤسسين. إن كل من شاهد الوصايا العشر سيعتقد أن المسيح هو مثلما جسدته فنون النهضة الأوربية، وقدمه الممثل شارلتون هيستون، رجلٌ قوقازيٌ ابيض ازرقُ العيون وأشقر الشعر. إن من يعتقد أن هذا مجرد تجسيد مادي إنما يدفن رأسه في رمال يهوذا الهوليوودية. هوليوود اعتبرت أن جمهورها ليس بوسعه أن يقبل صورة أكثر دقة. هل من المحتمل أن الإسلام متفوق بشكل بعيد في هذا الشأن حين يعتبر التجسيد المادي للنبي، حتى بالصوت، يشكل تشويشا للرسالة الروحية). إن التعبير الفني مع هذه القيود يعد اختباراً فنياً صعباً جداً لأكبر المخرجين وأكثرهم مخاطرة، لكن العقاد وفق نيزبيت (نجح في ذلك). فالنجاح الفني كان مقدرا ولم يُخِل ببناء القصة، لكن الفيلم لم يحقق النجاح الجماهيري لغياب شخصية البطولة (النبي صلى الله عليه وسلم) عن الشاشة وهو أمر لا يمكن لرواد الأفلام العاديين تفهمه.
كيف عالج العقاد المسائل الشائكة؟
استعاض العقاد عن تصوير النبي شخصيا بأن يرمز له بالكاميرا نفسها. فحين يتحدث إليه الناس ينظرون إلى الكاميرا، ويسود الصمت في الوقت الذي يبدو انه يرد فيه على السائل، والذي يومئ بالسمع والطاعة بانتهاء حديث النبي. أما حين يتحدث معه من لم يقبل كلامه من الأعداء (مثل أبي سفيان) فان الكاميرا تتحرك بعيدا حين يصرف بصره عنه. أضاف موريس جار لمسة فنية خاصة بموسيقى معينة تدخل دائما في المشاهد التي يحضر فيها النبي (ص) فيصبح حضور النبي (ص) أمرا يحسه المشاهد روحيا وليس ماديا.
امتدت حرمة تصوير النبي وزوجاته، أمهات المؤمنين (رضوان الله عليهن)، لتشمل سيدنا علي ابن أبي طالب، فاستعاض العقاد عن ذلك برمزية خاصة وهي سيف الإمام علي المعروف بذي الفقار. يظهر السيف دائما في مقدمة الصورة ولا نرى بقيته ونفهم حينها أن عليا (كرم الله وجهه) جاء.
عرض محمد علي كلاي أن يؤدي دور بلال ابن رباح لكن العقاد رفض ذلك خوف من القيمة التجارية العالية لمحمد علي وخشيته أن تؤثر سلبا في بناء القصة وتوزيع الأدوار. إن رفض مشاركة أكثر نجوم الملاكمة شعبية في التاريخ، قرارٌ يحتاج إلى شجاعة كبيرة جدا مثلما يحتاج إلى صرامة مهنية عالية ونادرة، لأن آخرين كان يمكن أن تدفعهم بالأساس القيمة التجارية العالية والتسويقية للبطل محمد علي للموافقة على مشاركته في الفيلم للحصول على نجاح تجاري مضمون وسريع. يبدو أن العقاد لم يكن يسعى لذلك.
كانت كتابة السيناريو بالأساس أمراً بالغ الصعوبة. فالجمهور الغربي المعتاد على السينما الغربية القائمة على اللغة البصرية لم تكن ليقبل بالخطاب السينمائي العربي الكلامي الحواري. والعرب الذين يتحدث الفيلم عن قصتهم لم يكونوا ليقبلوا بفيلم يفتقر إلى الفصاحة الكلامية التي يألفونها وطريقة التمثيل الخاصة بهم. إذن لم يكن للفيلم إلا أن يكتبه كاتب سينمائي غربي متخصص يترك مساحة للحوار والفصاحة العربية في نفس الوقت.
حلول عملية ورؤية عميقة
لكن لا زالت الأسئلة المحيرة كثيرة . هل يمكن لفيلم يمتد لساعتين أن يحكي حياة النبي (ص) وعظمته ويحكي أيضا نشأة الإسلام ونموه في الأربعين السنة التي ركز عليها العقاد؟. هل تفي هذه السويعات بالأحداث العظيمة والجليلة التي غيرت حياة ومستقبل البشرية؟. ومن يملك القدرة على عرض هذه القصة الموجزة بشكل غير مخل؟؟ كيف ينتج فيلم لجمهورين مختلفين في الثقافة واللسان والدين، في الغرب والعالم العربي؟؟ .
عالج العقاد المشكلة الأخيرة بفكرة عملية ومرهقة في نفس الوقت، حيث قام بتصوير فيلمين احدهم باللغة العربية يؤدي أدواره الأساسية ممثلون عرب (عبد الله غيث وحمدي غيث ومنى واصف) والآخر بالانجليزية مع طاقمه الأساسي من هوليوود (أنتوني كوين ومايكل أنسارا وايرين باباس)، لكن الطاقم الفني ظل كما هو في الفيلمين.
كلف العقاد الايرلندي هاري كريغ بكتابة سيناريو الفيلم. كريغ الذي كتب للعقاد لاحقا (أسد الصحراء عمر المختار) و توفي قبل اكتمال إنتاج الفيلم، كتب السيناريو لنسختي الرسالة العربية والانجليزية. استعان كريغ، المسيحي غير العارف بتاريخ الإسلام، لأداء مهمته الصعبة بتوفيق الحكيم و عبد الحميد جودة السحار وعبد الرحمن الشرقاوي ومحمد علي ماهر في كتابة السيناريو. كان هؤلاء الأدباء الكبار بطبيعة معرفتهم بدينهم ونبيهم وخبرتهم الأدبية المميزة خير عون لكريغ، كانوا يحكون المواقف والأحداث ويحولها هو إلى سيناريو يصلح للسينما، فالسينما فن مختلف عن الرواية والقصة التي اعتادوها. جاء السيناريو رائعا تأمليا وملحميا وكان الحوار الذي يتخلله بليغا في مخاطبة الفكر والوجدان، إلى حد أن المشاهد لن ينسى مواقف كثيرة مميزة سيخلدها هذا الفيلم مثلما خلدتها كتب السيرة إن لم يكن أكثر. من أجمل الحوارات في الفيلم عندما قال أبو سفيان بعد إسلامه للنبي (ص) (لكن الشك لا يزال في قلبي) رد عليه خالد بن الوليد (إذا قطعنا راسك ستزول كل هذه الشك تماما). لكن أجمل المشاهد في الفيلم وأقواها حضورا مشهد الافتتاح المميز لرسل النبي (ص) إلى كسرى وقيصر والمقوقس، وهم يصلون إلى نقطة معينة ثم ينطلقون منها كل إلى هدفه القابع وراء الصحراء اللامتناهية، الأباطرة الكبار وملوك العالم الذي يوشك أن يتغير.أخيرا تمت الموافقة من الجهات التي خاطرت بقراءة الواقع والوعي بالمستقبل، لكن بدأت رحلة العناء مرة أخرى.
فريق العمل
كانت المبادرة الأقوى لدى العقاد هي اختياره لمن يلعب دور حمزة بن عبد المطلب، الذي صار الشخصية المحورية بعد اشتراط عدم تصوير النبي (ص) وعلي (كرم الله وجهه). اختار العقاد انطونيو رودلفو كوين المعروف بأنتوني كوين والمشهور بزوربا نسبة إلى تجسيده دوره زوربا اليوناني في ملحمة كازانتزاكيس الرائعة. كان كوين ذي الأصول المكسيكية والمولود بالمكسيك، علما من إعلام هوليوود يتحلى بالمقدرة الفنية الرفيعة والجرأة البلاغة في اختيار أدواره وتجريب الجديد في كل مرة. عرف منذ أيامه الأولى بأداء ادوار الشر والأشخاص ذوي الأصول غير البيضاء. مثل دور شخص عربي عدة مرات الأولى في فيلم (الطريق إلى المغرب 1942) والثانية كزعيم قبيلة ورجل حرب في رائعة ديفيد لين (لورنس العرب 1964) ثم الرسالة وكارافنات 1978 وعمر المختار 1981. حصل كوين على الأوسكار الأول كأفضل ممثل في دور مساند عن دوره، في أول مرة يمثل مع مارلون براندو، في فيلم اليا كازان (فيفا زاباتا 1952 ) كأول أمريكي من أصول مكسيكية يفعل ذلك. لم يطول الوقت حتى حصل على اوسكاره الثاني (أفضل ممثل في دور مساند) عن دوره في فيلم قصة حياة فان غوج 1956 الذي ظهر فيه لثماني دقائق فقط. انتقل إلى ايطاليا وواصل الظهور في السينما الأوربية والأمريكية في نفس الوقت. حصل على ترشيحين لاحقين للأوسكار عن أفضل ممثل في دور رئيسي في فيلم عاتية هي الرياح 1957 وزوربا اليوناني 1964.
تميز بتنقله السلس بين البطولة والأدوار المساندة وجسد طيفا واسعا من الأعراق : مثل دور أمريكي من السكان الأصليين وعربي وصيني ومنغولي واسباني وباسكي وانجليزي وفرنسي وإغريقي وايطالي ويهودي وايرلندي ومكسيكي وبرتغالي وفلبيني وأوكراني وشخص من سكان هاواي وآخر من قبائل الهون. كان أيضا رجلا نزيها في مهنته كان يقول لعبد الله غيث الذي أدى دور حمزة في النسخة العربية ما يعني (إنه دينك ولذلك أنت تستطيع تجسيد المشاعر بصورة أفضل).
أدى دور القائد العسكري خالد بن الوليد الممثل فارع الطول وضخم البنية مايكل فورست. كان مايكل ممثلا معروفا في المسرح الشكسبيري، وشارك منذ ظهوره الأول في العام 1953 في 197 عملا سينمائيا وتلفزيونيا.
أدى دور أبو سفيان بن حرب الممثل الأمريكي العريق والعملاق مايكل انسارا المولود أيضاً في سوريا في العام 1922. انسارا أيضا تمتع بمسيرة حافلة على الشاشة بلغت 189 عملا سينمائيا وتلفزيونيا حتى العام 2001 . منذ عمل الأول ظهر انسارا في العربي حامد في فيلم (حادثة في الجزيرة العربية 1944) ومثل أنتوني كوين أدى دور الأمريكي من السكان الأصليين والسيخي والروسي واللاتيني والايطالي وغيرها.
أدت دور هند بنت عتبة الممثلة اليونانية الأشهر ايرين باباس. وصفتها كاترين هيبورن بـ(إنها واحدة من أفضل الممثلات في تاريخ السينما). تمتعت بتجربة كبيرة جدا بدأت منذ أواخر الأربعينيات وحتى العام 2003 بلغت نحو 83 عمل سينمائي وتلفزيوني. كان أهم أداورها في فيلم بومبولينا 1959 هو تجسيد شخصية البطلة اليونانية القومية لاسكارينا بوبولينا البارزة في حرب اليونان والأتراك. تميزت بأداء صوتي مميز للاغاني اليونانية الفولكلورية، وتجسيد التراجيديا اليونانية على المسرح حيث تعيش في البرتغال وبلغتها اليونانية الأصلية في الغالب.
بعد رفضه لعرض محمد علي كلاي اسند العقاد دور بلال بن رباح للسنغالي جوني سيكا الذي أدى دور العبد والخادم مرات عديدة في السينما البريطانية قبل أن ينتقل إلى الولايات المتحدة ويظهر في ادوار أكثر تعقيدا.
اختار العقاد لدور زيد بن حارثة الممثل داميان توماس المولود بالإسماعيلية بمصر. كانت معظم أعمال توماس قبل فيلم الرسالة أعمالا تلفزيونية. والغريب انه في عام 1970 أدى دور بنداروس في رائعة شكسبير يوليوس قيصر، بعد 17 عاما من أداء مايكل انسارا لنفس الدور في نفس المسرحية. عمل توماس راويا للفيلم التلفزيوني الوثائقي عن فيلم الرسالة والذي حمل اسم (صناعة ملحمة : محمد رسول الله).
ألف الموسيقى الرائعة للفيلم الفرنسي المميز موريس جار الذي أحسن من قبل تأليف موسيقى عدد من الأفلام الملحمية مثل لورنس العرب للمخرج الانجليزي البارع ديفيد لين. فاز موريس جار بجوائز الأوسكار الثلاث مع ديفيد لين في (لورنس العرب 1962) و(دكتور زيفاغو 1965) و لاحقا (ممر إلى الهند 1984). عمل موريس جار قبل ذلك مع عمالقة المخرجين مثل ويليام وايلر وجون هيوستون وفرانكو زيفيرللي، وكان قد حصل، قبل الرسالة، على جائزتي اوسكار وترشيحين فمنح الفيلم عملا موسيقيا رائعا جدا حاز به ترشيحا جديدا للأوسكار هو الترشيح الوحيد وأعلى جائزة فنية للفيلم،. إن موريس جار المعروف بموسيقاه ذات الطابع السيمفوني عرف أيضا بثقافته الموسيقية الواسعة واستخدامه للآلات المحلية ذات المدلولات الثقافية في موسيقاه. قدم موريس جار للإسلام شيئا ربما يعجز عنه أبناؤه.
ضمت قائمة التصوير ثلاثة أشخاص هم حسب ترتيبهم في شعار الفيلم : سيد بكر وجاك هيلديارد وإبراهيم سالم. الانجليزي جاك هيلديارد فاز بالأوسكار عن تصوير الفيلم الشهير "جسر فوق نهر كواي" 1958 ونال ثلاث ترشيحات من الأكاديمية البريطانية في السنوات 1964 و 1965 و 1967 قبل أن يأتي للرسالة.
وأخيرا ... التنفيذ
جمع العقاد بعضا من المال وشرع في تنفيذ الفيلم. أول المهام كانت تشييد موقع التصوير الأساسي في المغرب، استغرق تشييد مدينتين مماثلتين لمكة والمدينة في عصر النبي (ص) أربعة أشهر ونصف الشهر. تم تصوير مشاهد أخرى في ليبيا، وانتقل الممثلون إلى موقع التصوير وبدؤوا العمل لكن الممولين انسحبوا من الفيلم وتوقف العمل. يتذكر من عاصروا تلك الأزمة كيف أن الوضع كان صعبا وكيف تعطلت المكيفات بالفندق واضطر الطاقم إلى تبريد أجسادهم بقطع الماء المبللة في صيف المغرب القائظ. توقف كل شيء وبدأ الانتظار الممل والمؤلم حتى تدخل الرئيس معمر القذافي ومول كل العمليات المتبقية. قدرت تكلفة إنتاج الفيلم الكلية بنحو 10 ملايين دولار.
إطلاق الفيلم
في الإطلاق الأولي للفيلم في دور السينما عرض الفيلم في أمريكا (9/3/1977) ثم ألمانيا الغربية ثم السويد ثم الفلبين ولكنه عُرِض أول مرة في العالم الإسلامي في تركيا في أكتوبر 1979، أي بعد عامين ونصف من عرضه في الولايات المتحدة، أما في الدول العربية فلم يُعرَض الفيلم في السينما على الإطلاق (على الأقل بشكل معلن وقانوني ورسمي يحفظ لأهل الحق حقهم). المهم، وليس غريبا، أن الفيلم في الدول الغربية لم يوجه للجاليات الإسلامية، إطلاقا، لقد عُرِض دائماً باعتباره عملا سينمائيا فنيا ملحميا وتاريخياً، أو هكذا اعتبره النقاد.
وماذا بعد؟؟
انتصرت ثورة الفيديو في الثمانينيات للعقاد وأوصلت رسالته للجمهور في العالم العربي وان لم تعد له بالمال اللازم لإنتاج صلاح الدين الذي عقد عليه العزم في العام 1995. قضى السنوات العشر التالية متفرغا يبحث ويفتش عمن يمول الفيلم. لكن كان الهوان قد أرخى سدوله وعشش في بيوت وعقول ووجدان العرب. صار رجال الدين أكثر حرصا وتمسكا بعد الانحراف الكبير الذي جلبه الغزو الفضائي التلفزيوني، فتفرق الناس أيدي سبأ : الجمهور يلهو بالملاهي التي منحت له أخيراً، ورجال الدين يستعيذون بصورة اشد من الشر الأشد الذي أحاط بهم وهم اشد اعتقادا بفساد هذه الوسائط نفسها وعدم أهليتها المطلقة لخدمة الحق. هذا الفصام بين الفريقين منح العاجزين من الطرفين راحة البال لان الضمير مرتاح أصلا بالغياب منذ البداية. تجنب الجميع التواصل والنظر بجد ووعي للمفارقة الهائلة بين أضلاع مثلث الدين وواقع الناس ورجال الدين. صارت القيود اشد صرامة مما كانت وتوسعت دائرة الحرام لتبتلع معظم الحلال. رجال الدين يعتقدون بفساد العاملين في وسائط الأعلام وبالتالي يتشككون في مقدرتهم على إتباع الحق ونيتهم المبطنة الخبيثة وأهليتهم للتعاطي مع الدين المقدس، وبالتالي ينأون بأنفسهم عن مراودة شياطين الإنس لهم. وهؤلاء يعتقدون أنهم بحاجة لقرب رجال الدين منهم ويطلبون مشورتهم آملين في أفق أوسع يتحركون فيه ويخدمون دينهم برغم كل شيء. إنهم بسبب يقينهم بالجهل بأصول الدين وجوهره ومعرفتهم بالواقع يعلمون أن الأطروحة المقدمة من رجال الدين عاجزة تماما عن واقعها. وحمار الرحى يدور ... والمكان الذي يذهب إليه هو المكان الذي كان فيه.
ولكي لا نظلم أنفسنا يجب أن ننظر أيضا لضعف المقومات المحلية لصناعة السينما لم نعد نملك ثقافتنا الخاصة أو نتعاط بوعي مع الوافد، صرنا مستهلكين لكل بضاعة مستوردة. الموات السياسي والثقافي والوطني نفسه قيد على حياتنا ونشاطنا كله. العنت المعيشي والاقتصادي يلهينا عن الابتكار ويشغلنا بكسب المال.
الصراع واستخدام الفنون والإعلام
فيما عدا العرب والمسلمون ينظر كل شخص أو جماعة أو مؤسسة للسينما كوسيط سحري يمكن توظيفه لخدمة أهدافها. الجماعات المسيحية واليهودية والشركات الاستهلاكية والدول مجموعات الضغط والمصالح الخاصة أجهزة المخابرات والحرب النفسية أصحاب المذاهب والأفكار الجديدة، كلهم يعملون بجهد ويواجهون المصاعب ليبلغون مرادهم.
قبل وقت طويل جدا أنتجت هوليوود فيلم الوصايا العشر 1956 عن سيدنا موسى واستوحت قصة سيدنا عيسى في فيلم (بن هور 1961) الذي أنفق عليه بسخاء مدهش وأنجز بإمكانيات أهلته لينال 12 ترشيحا للأوسكار فاز ب 11 منها. إنه ليس الفيلم الوحيد فقد تم تناول شخصية المسيح وقصته في أفلام عديدة منها فيلم ميل جيبسون الأخير (آلام المسيح) .حينما أراد ميل جيبسون إنتاج هذا الفيلم ذهب للبابا واستأذنه وسأله الموافقة على السيناريو، أجابه البابا عن المسيح الذي في الفيلم (إنه هو). استخدم جيبسون اللغة الآرامية التي كانت سائدة في ذلك الوقت كلغة للفيلم إيغالا في الأصالة. اعتبر المسيحيون الملتزمون مشاهدة الفيلم نشاطا دينيا وربما شكلا من أشكال القربى فاشترى الأثرياء منهم التذاكر للفقراء. نجح الفيلم في استرداد كل ما انفق عليه (25 مليون دولار ومليون زيادة) في الأيام الأولى لعرضه من أربعاء الرماد إلى الأحد التالي فقط. المضحك أيضا أن هوليوود لم تسمح لفيلم ميل غيبسون بالترشح إلا في الفئات الفنية (التصوير والماكياج والموسيقى).
أما معركة الأفكار فهي أشد. تنظر المجتمعات المحافظة في أمريكا إلى هوليوود على إنها مدينة الخطيئة فقد روجت دائما للقيم التي لا يقبلها المحافظون، ليس بشكل منظم وإنما بسبب كون العاملين على السينما هم من يؤثر في محتواها. إن ابرز القضايا التي تم تسويقها خلال السينما (في العشرين عاما الماضية) هي المثلية الجنسية وقضاياها. كثرت في السنوات الأخيرة الأفلام التي تقوم بدور البطولة فيها شخصيات مثلية جنسيا في الواقع أو في القصة. فضلا عن العشرات من الشخصيات المساندة والآلاف من الإشارات المثلية التي طالت حتى أفلام الصغار لكن هوليوود ترد الصاع صاعين وتقول أنها فقط تكتب وتنتج ما يهتم له الناس والدليل أنهم يدخلون هذه الأفلام ويدفعون فيها مئات الملايين من الدولارات.

قبل الختام
بعد الرسالة أنجز العقاد فيلم (أسد الصحراء) الذي يحكي قصة كفاح البطل الليبي الشيخ عمر المختار ضد الاستعمار الإيطالي والدكتاتور موسوليني. استعان العقاد بطاقمه نفسه أنتوني كوين وهاري كريغ وغيرهم. مرة أخرى نجح العقاد في إنتاج فيلم يوقد جذوة الروح وينتزع الدمع من العيون في مشهد شنق الشيخ المجاهد. أثار الفيلم حماسة كبيرة في نفوس العرب والمسلمين ورد لعمر المختار فضلا غاب عن الناس فالتمسوا البطولة في غيره. تحمس الناس وطلبوا فيلماً ثالثاً عن صلاح الدين يرد الاعتبار له ويفند الافتراء عليه. كان الناس يحلمون مع اشتداد الصراع في فلسطين، بفيلم يُعرِّف بقيمة وعظمة وروح القائد الفذ صلاح الدين وفضله وتسامحه الذي شهد به المنصفون من أعدائه صليبيين ويهود. كانت الأموال في العالم العربي تكتنز مع مبيعات النفط وأسعاره العالية في الثمانينيات، والثراء يزور بيوتا أكثر من ذي قبل. لم يكن هنالك حرج ديني تجاه جيل صلاح الدين كما كان تجاه أصحاب النبي (ص). انتشر التعليم والوعي، اشتد تفاقم الصراع في فلسطين وزاد الضغط الغربي على العالم العربي. لكن أدى ذلك لنتيجة واحدة فقط هي الخوف من تمويل عمل كهذا فالأموال صارت حبلا يربط أثرياء العرب بالغرب ولا حاجة لإدخال صلاح الدين ليفسد ما بين الشركاء.
لم يعد صلاح الدين يذكر إلا في تساؤل خجول بين الفينة والأخرى يلقيه احد الصحفيين على العقاد فيجيبه بهدوء (إذا توفر التمويل ستحصلون على الفيلم) ربما كانت الإجابة للنفي أكثر منها للإثبات.
لربما نتساءل بصوت خافت هل سنرى فيلما آخر بعظمة الرسالة؟ ونتساءل بصوت أكثر خفوتا إن كان سينتج في استوديوهات هوليوود؟؟ أو بمواصفات السينما العالمية؟؟. لكن الحقيقة أننا قتلنا العقاد مرَّتين، مرة عندما صلبناه على حبل الانتظار الطويل لفيلم صلاح الدين، ومرة حينما فجرنا الفندق الذي كان يقيم فيه في 11 نوفمبر 2005 بالأردن. ولكننا نتمنى أيضا أن تكون هذه الكارثة العظة التي ندرك حينها الحاجة الماسة للدخول إلى هذا الفن العجيب بشروطه .
خاتمة
لم يتجشم عناء التصويت لفيلم الرسالة في موقع IMDB (المتخصص والموجود بالانترنت منذ ثلاثة عشر عاما على الأقل) إلا نحو 3400 فقط للنسخة الانجليزية (والمسلمون أقل من النذر فيهم)، أما النسخة العربية فحالها أسوأ إذا تفضل عليها نحو 230 زائر فقط بالتصويت.يبدو أننا لم نستطع حتى أن نقدر للعقاد جهده الفني في إنتاج الفيلم الذي شاهدناه عشرات المرات بالفيديو دون أن ندفع له مقابل.
ــــــــ
سيرة موجزة

ولد العقاد في 1/7/1930 بمدينة حلب بسوريا ومات متأثرا بجرحه في تفجير فندق بالأردن في 1/11/2005 فيما قتلت ابنته ريما مباشرة. أخرج ثلاثة أفلام سينمائية فقط في حياته هي الرسالة باللغة الإنجليزية والرسالة باللغة العربية وأسد الصحراء. عمل منتجا غالب الوقت ومصورا فوتوغرافيا في أحد أفلامه. درس المسرح بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس ونال الماجستير من جامعة جنوب كاليفورنيا. بدا عمله الاحترافي ببرنامج تلفزيوني عن سيرة المجموعات العرقية في لوس أنجلوس وكيف أن خلفياتها الثقافية تؤثر على طريقة حياتها في أمريكا. عرضت عليه شبكة NBC أجراً أعلى إذا وافق على عدم عرض اسمه في البرنامج، من هنا تعلم درسه الأول في عالم الوسائط، تعلم أن الحق الأدبي والشهرة أهم بكثير وأقيم من المال.
حينما أراد السفر إلى الولايات المتحدة ليشبع شغفه بالسينما أعطاه والده تذكرة السفر ومعها مصحف قائلا إنها كل ما يمكنه أن يعطيه.
بعد فيلم الرسالة عادة لإنتاج أفلام هالووين مرة أخرى قبل أن يرجع ومعه أنتوني كوين لعمل فيلم عمر المختار الذي يحكي قصة نضال وجهاد الليبيين ضد الاستعمار الإيطالي. كان هذا آخر فيلم يخرجه فقد كان شغفه بالتاريخ كبيرا إلى حد انه رفض إخراج أي نوع آخر من الأفلام. قضى السنوات العشر الأخيرة يبحث عن تمويل لفيلم صلاح الدين. كان في موضوعاته وطريقته في الإخراج قريب الشبه من المخرج الإنجليزي الكبير ديفيد لين صاحب (لورنس العرب) و(دكتور زيفاغو) و(ممر إلى الهند) ، كما كان موريس جار قاسما آخر بينهما.

شِيفْرَة دَافِنْشِي .. كَيفَ سَرقَت الوَثَنِـــيَّة رِوَايةً عَظِيمَة

شِيفْرَة دَافِنْشِي
كَيفَ سَرقَت الوَثَنِـــيَّة رِوَايةً عَظِيمَة

في مطلع الألفية الثالثة، ومع كل الإنجازات البشرية في العلوم والتقنية والاتصالات والسيطرة الظاهرة على الطبيعة لا يزال الدين، كما كان من قبل، أهم قضية يمكن أن تشغل الناس في كل أنحاء العالم. إن فيلم شيفرة دافنشي لا يعدو أن يكون واحداً من الكثير من الأدلة التي تقدمها السينما وحدها، فقبل عامين فقط أنتج ميل غيبسون، من ماله الخاص، فيلم آلام المسيح الذي أثار جدلاً كبيراً في جميع أنحاء العالم وهيج مشاعر المسيحيين وألهب حماستهم، وأغضب اليهود، وعاد على صاحبه بأكثر من 250 مليون دولار تساوي عشرة أضعاف التكلفة الأساسية للفيلم.
أما الأفكار التي تتعلق بالدين والإيمان فإنه يتم تناولها بشكل مستمر في كافة القوالب الفنية كما رأينا في "بروس بالغ القدرة" Bruce Almighty الذي يجسد فيه جيم كاري شخصية بروس الفاشل والمتذمر دائماً من الأقدار، إلى حد أن الرب يستدعيه ويناقشه، ثم يمنحه صلاحياته الكاملة لعدة أيام لِيَرَى بروس إن كان يستطيع إصلاح حاله بيده أكثر من الرب. إن هذه الفكرة بالغة الجرأة لكن ما دونها من أفكار تناقشه الكثير من الأفلام، و يمكننا أن نتوقع المزيد من هوليوود في السنوات القادمة.
الرواية :-
((جمعية سيون الدينية(1) هي منظمة حقيقية .... إن وصف كافة الأعمال الفنية والمعمارية والوثائق والطقوس السرية في هذه الرواية هو وصف دقيق وحقيقي)).
بهذه العبارات المثيرة للقلق يقدم دان براون لروايته المدهشة والمزعجة في آنٍ واحد. وبطول الرواية التي تقارب صفحاتها الخمسمائة صفحة (حسب النسخة العربية من الدار العربية للعلوم – بيروت، لبنان) تغمرك التفاصيل المدهشة للطقوس والعبادات والمعلومات التاريخية والمعمارية والوصفية التي لا بد أن جمعها استغرق وقتاً طويلاً من دان (وزوجته التي هي مؤرخة في الفن ورسامة) واستوجب شكراً جزيلاً لمؤسسات متعددة ثقافية وفنية ومتاحف ومحطات إذاعية في فرنسا وبريطانيا وأمريكا وأفراد ينتمون لمؤسسات دينية عديدة.
إن الاعتماد على الكثير من الحقائق كأساس لرواية خيالية هو أمر مقلق جداً، وخصوصاً إذا كانت الخلاصة مفارِقة لكل المسلمات والمعتقدات. أثناء القراءة، دائما،ً يتبادر السؤال وفي كل جزئية أين تنتهي الحقيقة ويبدأ الخيال. الحقائق والخلاصة هي ما حدا بمؤسسات دينية كنسية للمطالبة بحظر الرواية في الدول التي يمكن أن تفعل ذلك (ليس في أمريكا وفرنسا على كل حال)، وشُنَّت حملات مضادة على الراوي والرواية، وتم تأليف عدة كتب في الرد على ما جاء فيها، أبرزها حتى الآن "الحقيقة وراء شفرة دافنشي"(2)، "وحل شفرة دافنشي"(3)، و"الحقيقة والخيال في شفرة دافنشي"(4). أما المقالات فهي تملأ الصحف والمجلات والدوريات ومواقع الإنترنت بكل اللغات. والردود جاءت من قساوسة أرثوذوكس مصريين وغيرهم في المنطقة. تُرجمت الرواية إلى 44 لغة وبيعت منها أكثر من ستين مليون نسخة تقريباً (حتى مارس 2006)، وتم حظرها في بعض الدول العربية والإسلامية منها مصر ولبنان والأردن وإيران (بطلب من الكنائس المسيحية).
لكن الأهم هو أن الرواية في حد ذاتها مشوقة جداً، وإذا اعتبرناها مدهشة في الكم الهائل من التفاصيل الفنية والتاريخية والمعمارية والطقسية الذي ترويها، وعلى مهل، فإن التشويق الحقيقي هو أهم ميزات الرواية وهو الأمر الذي حفز الملايين لقراءتها.
إن دان براون نفسه لم يكن روائياً مشهوراً قبل "شفرة دافنشي"، لقد كان روائياً جيداً فحسب. لكن الحرفية العالية التي أظهرها في هذه الرواية تؤكد على موهبته ومقدراته العالية كراوي لكن ليس بالضرورة أن يكون في مصاف الروائيين العظام. إنه راوي بارع في فن الرواية البوليسية (تجاوزاً) وشفرة دافنشي ترفع من شأن هذا النوع الروائي بنجاحها الكاسح، والذي من جهة أخرى عاد بالمزيد من المبيعات لروايات دان براون السابقة والمزيد من التقدير له (وأيضاً المزيد من الأفلام المقتبسة عنها).
إذا كنت مثلي ممن يستمتعون بالعمل الفني باسترخاء كامل ولا يُقلقون أنفسهم بتوقع مسار الأحداث، وليست لديهم رغبة في اتخاذ موقف أو البحث عن فكرة مسبقة، فإنك ستستمتع كثيراً بكل المنعطفات التي تزخر بها الرواية من الفصل الأول وحتى الصفحات الأخيرة. وإذا كنت من الآخر الذي يستمتع بتوقع الأحداث فاستعد لمواجهة الكثير من المفاجآت والمنعطفات.
عن أي شيء تحكي شفرة دافنشي
يمكنك أن تعتبر الرواية مجرد قصة بوليسية عن عالم رموز يكشف ملابسات مقتل القيم على متحف اللوفر كما يحكي ملخص القصة، لكن هنالك فكرتان جوهريتان تدور حولهما الرواية، الفكرة الأولى تقول أن الكنيسة شوهت الديانة المسيحية بعدة أمور:-
1. منها تأليه المسيح ونفي الصفة البشرية عنه.
2. ومنها التأثر بالعبادات والرموز والطقوس الوثنية التي كانت غالبة في روما وما حولها أيام إقرار الإمبراطور قسطنطين المسيحية ديناً رسمياً للدولة في العام 325م، هذا الجزء هو الذي يحصل على أكثر الشواهد من الحقائق التاريخية والمعمارية والفنية والطقسية (وهذا الجزء مع قضية زواج السيد المسيح من المجدلية ربما يكونان السبب الرئيسي وراء حملة الكنيسة عليه).
3. ومنها أن الكنيسة هضمت دور المرأة في الدين وفي الحياة، ثم أقصتها تماماً بل واتخذت مواقف سلبية تجاهها إذ حملتها عبء هبوط أو طرد آدم من الجنة ومعاناة البشر بعد ذلك واعتبرتها رأس كل شر وهذا (حسب الرواية) لم يكن أصيلاً في المسيحية التي تظهرها على الأقل الأناجيل الغنوصية (Gnostic) التي رفضتها الكنيسة رفضاً تاماً مثلما فعلت مع عدد آخر من الأناجيل.
الفكرة الجوهرية الثانية ذاتُ صلةٍ بالأولى، فموضوعها أيضا هو المرأة وبالأصح (الأنثى المقدسة). الرواية تقول أنه في تاريخ الإنسانية القديم، والوثني بالأخص، وجدت المرأة، بسبب أنها تمنح الحياة بالولادة، تقديراً كبيراً وصل درجة التقديس في بعض المجتمعات القديمة. الأنثى المقدسة مفهوم وثني قديم ومعروف وتوجد شواهد عنه في عدة مجتمعات قديمة في الشرق والوسط (في الهند ومصر القديمة على سبيل المثال).
إن الانتقاص من قيمة المرأة ومكانتها في المجتمع هو أمر حدث لاحقاً، أي بعد المسيحية، والجهة صاحبة الجهد الأكبر في التقليل من قيمة المرأة هي الكنيسة (المؤسسة الرسمية للمسيحية) التي اتحدت روحها الذكورية مع التخلف السائد في أوروبا أوان اعتناقها المسيحية في القرون الميلادية الأولى. تقول الرواية أن الكنيسة أحرقت وأغرقت وأعدمت خمسين ألف امرأة بدعوى الهرطقة في حملة واحدة لإكمال السيطرة على النساء.
لكن لا يجب أن ننسى أهم موضوعات الرواية على الإطلاق، ليوناردو دافنشي الذي تحمل الرواية اسمه. إن دافنشي هو بحسب الكثيرين أهم فناني عصر النهضة في أوروبا، هذا الرجل الذي يعرفه اغلب سكان البسيطة بلوحته الأشهر، الموناليزا، يعرفه المسيحيون بصورة خاصة بلوحته "العشاء الأخير" التي رسم فيه السيد المسيح وحواريه في اللحظات التي سبقت القبض عليه، ويعرفه أهل الفنون برسوماته الأخرى الكثيرة، "عذراء الصخور" واسكتش الرجل الفيتزوفي (رجل يمد يديه إلى أقصاهما وتحيط به دائرة)، ويعرفه أهل العلوم بتصميماته المتقدمة على عصرها والجريئة للطائرة والغواصة والدبابة. تزين لوحات دافنشي مواقع كثيرة كنسية وفنية وغيرها لكنه رجل يثير الكثير من الجدل أيضاً بسبب مقدراته الفنية وبسبب حياته الخاصة. كان دافنشي معروفاً بالعبقرية والفسق والشذوذ الجنسي، ورغم ذلك تشكل اللوحات الدينية عن السيد المسيح والسيدة العذراء تراثه الفني الأهم، وتشكل غالبيتها والموجودة بمتحف اللوفر ثيمة أساسية تتنقل بها أحجية القصة الرئيسية.
الإشكالية
هنا نصل إلى إشكالية الرواية. فهي تتهم المسيحية بأنها غارقة في وحل الوثنية وفي بحر التزييف، ويسعى أبطال الرواية (الذين يؤازرون أخوية سيون – دير صهيون) إلى كشف حقائق مخيفة ومخفية من ألفي عام، لكن الأخوية لا يبدو أنها تهدف إلى الوصول إلى المسيحية النقية وإنما إلى الوثنية النقية. إن المفارقة الأكبر هي أن ذرية المسيح "عليه السلام" من مريم المجدلية (كما تقول الرواية) والتي تعيش حتى الآن في شخص جاك سونير لا تمارس المسيحية النقية وإنما تمارس العديد من الطقوس الوثنية مثل ييروس غاموس، وهو طقس وثني جنسي مورس آخر مرة قبل ألفي عام أي قبل المسيحية نفسها، ولعل هذا يبين أن الجماعة لا تنتمي للمسيحية وإنما تنتمي في الأصل للأديان الوثنية القديمة. إن الجماعة التي تحتج على وثنية الكنيسة هي أكثر وثنية من الكنيسة بكثير.
الموقف الثاني هو أن دان براون استغرقته تفاصيل الطقوس والعبادات، الوثنية بالأخص، وأسرته إلى حد أنه سلبت منه الرواية التي كان يريد حكايتها. لقد تورطت سلالة المسيح عنده بالوثنية إلى حد لا يمكن أن تتعاطف بعده معها، خصوصا أنها مفارقة للكنيسة المتورطة أيضاً في الوثنية، والتي تطارد أفرادها عبر التاريخ إلى حد القتل.
أين يقف دان براون
بعد كل هذا الهجوم المعلوماتي التاريخي العنيف على الكنيسة ووثنيتها (حسب الرواية) لا يقف دان براون ضد الكنيسة إطلاقاً، أو ربما لا يجرؤ على الوقوف ضدها. عموماً ليس من الجيد أن تحلل شخصية الكاتب، أو موقفه، بناء على شخصيات رواية من رواياته. لكن هذه رواية تتحدث عن الدين الذي يعتقده الرجل نفسه وتعتمد في اتهاماتها له على حقائق ومعلومات تاريخية موثقة ، فلا بد للرجل أن يقف في مكان ما.
برغم تعاطفه الواضح مع الجمعية السرية (صوفي وسونير) في سعيهم وراء الغريل المقدس، دماً كان أو كأساً، فإنه يتعاطف بدرجة أكبر مع الشخصيات المسيحية المتدينة فالقس "أرينغاروزا" هو رجل يسعى إلى إعادة الكنيسة إلى المسار الصحيح الذي ضلت عنه بتنازلاتها المستمرة، ولعلك تشعر بالتقدير الكبير له وهو يسعى لتخليص الكنيسة من عبء جمعية دير صهيون. وفي النهاية خرج من كل المشكلات التي حدثت جراء سعيه المحموم وراء الجماعة، ولم ينس أن يتبرع بأموال الفاتيكان لأسر من قتلهم تابعه المخلص "سيلاس". أما "سيلاس" نفسه فقد تطهر من كل الذنوب ووصل قبل موته إلى درجة من الصفاء والسلام الداخلي مع ماضيه وحاضره قبل الانتقال إلى الرب في جو ذي شاعرية فائقة. النقيب "بيزو فاش" نفسه رجل جاد ومحترم ومتدين جداً ولم يخطئ بحق أحد حتى النهاية، إنه أكثر استقامة من القس نفسه. إن براون ليس سونير ولا صوفي ولا هو تيبينغ أو سيلاس بطبيعة الحال ولا بيزو فاش، فمن هو؟
لعل "لانغدون" هو أقرب الشخصيات إلى براون الكاتب، فهو رجل علم محترف ومحايد تقريباً، إنه يتكلم عن الوثنية أو المسيحية من ناحية الحقائق والمعلومات المجردة ولكنه يظهر الكثير من التقدير للقديم الوثني. ومثلما خر لانغدون راكعاً على ركبتيه عند مرقد المجدلية في النهاية، يبدو أن دان براون خر راكعا أما باب الكنيسة (مجازاً) ليعقد صفقة صلح مع الكنيسة.

الفيلم
حشدت كولومبيا بيكشرز للفيلم أفضل ما يمكنها لتتأكد من نجاحه. فقد وظفت لمهمة الإخراج رون هوارد المخرج الكبير والمعروف والذي فاز بجائزتي أوسكار لأفضل فيلم وافضل مخرج عن فيلم "عقل جميل" سنة 2001م وشاركه في جائزة أفضل فيلم المنتج بريان غريزر الذي يشاركه إنتاج شفرة دافنشي. وله مع هانكس فيلم "أبولو 13" في عام 1995 وكان هو أول من منح هانكس دور البطولة في فيلم سبلاش عام 1984، وهناك أيضاً أعمال أخرى مميزة وحائزة على جوائز أخرى من مهرجانات في مناطق مختلفة حول العالم. حجز دور البطولة للمثل الكبير توم هانكس فاز من قبل بأوسكار أفضل ممثل لمرتين متتاليتين (1993-1994) وكانت هذه هي المرة الثانية فقط في تاريخ الأوسكار بعد سبنسر تريسي (1937-1938). أما دور الفرنسية صوفي فلم يكن أحد ليؤديه أفضل من أودري توتو ، الحائزة على جائزة سيزار (الجائزة الفرنسية الموازية للأوسكار) لأفضل ممثلة واعدة في العام 2000 قبل أن تنال ترشيح أفضل ممثلة عام 2002 و 2005.
دور بيزو فاش نقيب الشرطة القضائية الفرنسية المحترم والجاد والصارم أوكل للمثل الفرنسي الكبير جان رينو الحائز على ثلاثة ترشيحات لجائزة سيزار، وجائزة افضل إنجاز أوروبي في السينما العالمية عام 2000 من مهرجان الفيلم الأوروبي.
مهمة التأليف الموسيقي أوكلت للمؤلف الموسيقي الكبير هانز زيمر الذي نال ستة ترشيحات أوسكار وفاز منها بواحدة. أما جائزة الجمعية الأمريكية للمؤلفين والناشرين الموسيقيين فقد فاز بها للسنوات الخمس الماضية عن أفلام ناجحة في شباك التذاكر (قدم لنا من قبل المصارع وقصة قرش وسقوط الصقر الأسود والساموراي الأخير).
أوكلت مهمة كتابة سيناريو الفيلم إلى اكيفا جولدسمان الذي قام من قبل بكتابة سيناريو أفلام : "الرجل السندريلا 2005" و"أنا روبوت 2004" و"عقل جميل 2001" الذي أخرجه رون هوارد. يمكننا أن نقول أن التوقعات لم تكن لتكون أعلى مع وجود هذا الفريق. ويمكننا أن نقول هذا هو السبب وراء عدم حصول الفيلم على التقدير الكبير الذي كان يتوقعه الجميع، فالرواية رفعت من سقف التوقعات إلى مستوىً عالٍ جداً فهي مشوقة جداً وخلابة، وكولومبيا نثرت كنانتها ورأت اصلبهم عوداً ورمت به.
في الطريق
بدأ تصوير الفيلم في 8 يوليو 2005 وتم التصوير بالأساس في فرنسا وإنجلترا وصورت القلاع في اسكتلندا وبعض المناظر في مالطا. وبعد عشرة أشهر تقريباً في يوم 17 مايو 2006 بدأ عرضه الافتتاحي في السينما في عدد كبير من دول العالم من بينها عدة دول عربية هي البحرين وعمان والإمارات وقطر (وهي دول لا يوجد بها مسيحيون تقريباً) وسوريا (وهي بلد منفتح جداً ثقافياً) وفي إفريقيا نيجريا وكينيا وجنوب إفريقيا (الأفارقة ليسوا حساسين تجاه السينما كما أن الأديان التقليدية فيها واسعة الانتشار ربما إلى حد التأثير في المسيحية والإسلام).
بلغت تكلفة إنتاج الفيلم نحو 125 مليون دولار تقريباً وهي ميزانية كبيرة ولكنها ليست ضخمة. إن الفيلم ليس بحاجة إلى أعمال كبيرة في المؤثرات الخاصة وهي التي صارت ترفع تكلفة الأفلام بصورة رئيسية، كما أن توم هانكس ليس من الممثلين المغالين في أجورهم رغم انه يتقاضى اجر ممثلي الفئة الأولى التي تبلغ نحو 20 مليون دولار. لكنه يمكن أن يشارك في أي فيلم بغض النظر عن الأجر، وهو عمل في فيلم Catch Me If You Can مجاناً لصداقته الخاصة لسبيلبيرغ.
في العرض الافتتاحي، عطلة نهاية الأسبوع، حقق الفيلم أكثر من مائة مليون دولار في خمس دول فقط (وهذا رقم كبير يضعه في مصاف الأفلام الضخمة)، وبلغ دخله حتى 9 يوليو 2006 اكثر من 270 مليون دولار.
لكن ماذا عن الفيلم ؟
تسمى عملية تحويل رواية إلى فيلم بـ"معالجة سينمائية" للرواية فليس كل ما يكتب بالضرورة يمكن تحويله إلى صورة، كما أن التحدي المهم هو تحويل رواية تتكون من خمسمائة صفحة إلى فيلم معقول. يمتد وقت الفيلم إلى ساعتين وثلث وهذا إنجاز كبير.
في البداية لا بد أن نشير إلى أن هنالك مشكلات تواجهها كل الأفلام المقتبسة من روايات، وتبرز الأسئلة : هل سيكون الفيلم في جودة الرواية أم لا؟ هل سيلتزم حرفيا بالرواية أم سيكون اقتباساً عاماً يأخذ روح الرواية ولا يلتزم بالتفاصيل؟ هل وهل ...؟ هل سيكون الالتزام بالرواية هو سر النجاح، كما حصل في بعض الأفلام، أم سيكون سبب الفشل، كما حصل في بعض الأفلام؟
هذه أسئلة تقلق كاتب السيناريو والمخرج لكن الأمر المخيف فعلاً أن الجمهور يعرف القصة سلفاً ولا بد أنه رسم في مخيلته الصور الخاصة به أثناء القراءة. وهكذا فإن مشاهدة الفيلم هي ليست عملية استمتاع مجرد لكنها تتضمن بدرجة كبيرة محاكمة أو مقارنة بين الكتاب والصور التي رسمها القارئ والفيلم. عليه يبدو تقدير نقاد وزوار موقع imdb للفيلم (6.5 من 10) دليلا على جودة الفيلم أكثر منه انتقاصاً له.
لا شيء مختلف في الفيلم عن الرواية، بالتأكيد لا تفاصيل إضافية وإنما اختصارات اقتضتها ضرورة التحويل/المعالجة. توم هانكس في دور "روبرت لانغدون" قدم بدرجة كبيرة الأداء الذي تتوقعه منه، إلا إذا توقعت شيئاً خاصاً فوق العادة. وبرغم تحفظ البعض على انسجام هانكس وتوتو كبطلين، فلا يجب أن ننسى أن هذه هي المرة الأولى التي يتقاسما فيها بطولة فيلم، وقد نجحا في الحقيقة بانسجام مقدر. أودري توتو، أشهر الممثلات الفرنسيات الشابات، قدمت أداء مميزاً خصوصاً أن الفيلم أمريكي ومع طاقم أمريكي وفوق ذلك كان عليها أن تتحدث الإنجليزية باللكنة البريطانية. نجح الإنجليزي الشاب بول بيتاني بشكل مميز في أداء دور سيلاس المستميت في تنفيذ أوامر معلمه. أما الإنجليزي الآخر والأشهر إيان ماكيلين (المعروف أكثر بتجسيده شخصية غاندالف في فيلم سيد الخواتم 2001، والذي نال عنه ترشيحا للأوسكار) فقد بث حيوية غير عادية في دور لاي تيبينغ المؤرخ المهووس. هانز زيمر قدم أداء رفيعاً في التأليف الموسيقي يوازي الرواية نفسها. التصوير والمشاهد أنجزت بشكل فائق ومميز صار معه الفيلم تجربة جميلة في المشاهدة.
خاتمة
الكتاب جدير بالقراءة والفيلم جدير بالمشاهدة ليس بسبب التشويق والمتعة الفنية فحسب، وإنما أيضا لانهما، بشكل ما، يحثان الإنسان على التفكير والنظر فيما يعلم ويألف من الأشياء مهما كانت درجة اليقين والمعرفة أو الثقة ومهما كانت درجة قدسيتها. الرواية تقول لنا وبجرأة كبيرة أن ما نعلمه من أشياء بدرجة اليقين ربما يكون غير صحيح تاريخياً على الأقل. إن إعادة النظر والتفكير لا تعني بالضرورة بطلان ما تعلم أو تعتقد، لكنها ربما تختبر اعتقادك وتثبته في النهاية. قال مسيحيون متدينون أنهم شاهدوا الفيلم ولم يهتز إيمانهم أو اعتقادهم فالفيلم في النهاية ليس عمل تبشيري مضاد وإنما عمل فني للمتعة الذهنية بالأساس. عموماً ليست كل الأمور في حقيقتها مثل تبدو عليه في الظاهر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش :-
(1) بالإنجليزية Sion Priory و ترجمتها الصحيحة هي جمعية دير صهيون.
2. The Truth Behind the Da Vinci Code: A Challenging Response to the Bestselling Novel by Richard Abanes
3. De-Coding Da Vinci: The Facts Behind the Fiction of The Da Vinci Code, by Amy Welborn
4. The Da Vinci Code: Fact or Fiction (Mass Market Paperback)
by Hank Hanegraaff, Paul L. Maier
ملاحق :-
1. للمزيد من المعلومات عن الكاتب ورواياته الأخرى (وأحاجي والغاز متعلقة بها) يمكنكم زيارة موقع الكاتب الشخصي http://www.danbrown.com
2. انتجت شكرة كولومبيا بيكشرز فيلم ملائكة وشياطين Angels and Demons في العام  2009 من الرواية التي تحمل نفس الاسم، ويلعب الدور الرئيسي فيها روبرت لانغدون بطل رواية شيفرة دافنشي (يؤديه توم هانكس بالطبع)، وهي أيضاً قد حصلت على حقوق أي رواية قادمة يظهر فيها روبرت لانغدون.
3. تم انتاج لعبة كومبيوتر باسم Da Vinci Code واطلقت قبل الفيلم وهو أمر شائع مع الأفلام التي تحمل طابع التشويق.
4. تم تصنيفه ضمن فئة PG-13 ويعني التشديد على وجود رعاية أو رقابة الوالدين للأطفال دون الثالثة عشرة.
5. للحصول على معلومات عن أي فيلم سينمائي او أي شخص يعمل في مجال السينما فإن المرجع الأهم على الإنترنت هو www.imdb.com .