الثلاثاء، 15 فبراير 2011

هل يمكن أن نحيا حياة أفضل - 2


أَنَا وأَنْت حالةٌ تَارِيخيَّة

التَّوقُّف عن الهروب
ذكَّرني الأخ المكاشفي، في حسن ظنٍ ورقيق كلامٍ يصدر عن مثله وهم قليل، معلِّقا على المقال السابق، ذكَّرني بنيفاشا والحرب والسلام والاستفتاء والوطن الذي ربما ينقسم وينقسم معه وجداننا وذكرياتنا وأشياء كثيرة. بدون هذه التفاصيل المرهقة وآلامها – تلك التي أرهقته وأرهقتنا جميعا - لسنا في حالة أفضل، لذلك آمل أن نتجاوز حقاً كل التفاصيل (السياسية والاجتماعية والاقتصادية) حولنا ونجرب السكون الخلَّاق علنا ندرك ما لم ندركه في السعي المحموم والركض الدائم. إنها تفاصيل تزيدنا ارتباكا ولا شك، لكن اعتقد أنه في صميم كينونتنا هنالك القليل جداً من التفاصيل التي تؤثر علينا حقاً. إننا لا نهرب من الخارج إلى الداخل وإنما نتوقف عن الهرب إلى الخارج ونهتم بالداخل الذي أهملناه طويلاً.
إن جذور المشكلة تمتد لزمن بعيد. نقضي طفولتنا كلها نحلم بما سنكونه ونفعله عندما نكبر، وعندما نكبر لا نذكر ذلك ولا نريده، لأننا صرنا شيئاً آخر وآخر مرة بعد مرة. كلما كبرنا نصير أسوأ في الغالب لأننا نتخلى في كل مرة عن أشياء كثيرة. توجز الحكمة الدارجة ذلك "يريد الواحد تغيير العالم. ثم يكتفي بتغيير الوطن. ثم يتراجع إلى القرية. ثم يتنازل إلى الأسرة. ثم يتوقف محاولا تغيير نفسه في الستين من عمره". صيرورة العجز هذه تخلص بك إلى أن المعادلة معكوسة رغم أنك تتساءل كيف سيغيِّر شاب عشيريني نفسه التي لم تتشكل بعد ولم يبغضها بعد ليرغب في تغييرها.
ما نَطْلُبُه نَكُونُه
على عكس ما نعتقده أحيانا في أننا لا نتغير، نلاحظ أننا نتغير دائماً، لكن غالباً على غير النحو الذي نريد. نتغير كما تريد نفوسنا لا كما تريد عقولنا. إننا نتغير بسبب المعرفة وتجارب الحياة والخبرات والأهم بسبب ما جرينا وراءه. ما نطلبه نكونه. نكونه لا تعني أننا سنحصل عليه بالضرورة، تعني أننا نتغير فنشبه ما سعينا وراءه، نشبه أسوأ ما فيه أحياناً لأن لكل شيء ثمنه. نسعى وراء المال فيصيبنا الشح والجشع. نلهث وراء السلطة فنصبح متغطرسين ظلمة. نركض وراء الشهوات فيتملكنا الفسوق والخلاعة، يغرينا التملك فيملؤنا الحرص والحسد. نبتغي الشهرة فنصيب التفاهة والعُجب.
اختيار الأهداف الخيِّرة أكثر صعوبة لأن فيه عَدُوَّان: نفسك والشيطان يُخذِّلانِك عنه من جهة، و الله جل وعلا يعينك عليهما من جهة فتستجيب له مرة وتُدبِر مرات. تجذبنا المعرفة فنمرض بالتعالي والانغلاق. ننشد النور فنتعثر في الظلمة، نطلب التقوى فننتكس في الفجور. ثم إننا ننشد الكمال الذي هو أكثر تضليلاً من كل ذلك، نطلبه لأنه يبدو هدفاً لائقاً وراقياً وجديراً بالاحترام، لأننا نفتقر هذه الأشياء ربما. هذا الكمال المهني/الإنساني/الأخلاقي أشد خطراً لأنه ينطوي على الأمراض السابقة كلها وأكثر. لا شيء آمن، لا شيء نقيّ، كلّ ما نطلبه يتضمن اختبارا في أمراضه التي إمَّا نُشفى منها ونَطهُر أو تَعلَق بنا للأبد.
من نحن
نحلم "تأخذنا القصيدة من خرم إبرتنا لنغزل للفضاء عباءة الأفق الجديدة". ليست المشكلة أهدافنا الكبيرة وحسب بل حتى أهدافنا الصغيرة. إنها تتعلق دائما بشيء ما، تلهينا دائما بالخارج، بما ليس عندنا بما ليس نحن. حسناً ومن نحن؟ من أنت؟. سألت الكثير من طلابي هذا السؤال، وهم أناس أشدّ ضياعاً منا فيما يبدو إذ ينشدون لدينا حلولاً لمشكلاتهم.
هنالك "أنت" متعددون. "أنت" الذي يحبه البعض، و"أنت" آخر يبغضه البعض، و"أنت" الذي تعرفه في رضاك عن نفسك، وآخر عند سخطك عليها، وآخر اكتشفته مرة في ظرف استثنائي، وآخرون بلا حصر ولا عدد، فمن أنت؟ أنت لست واحداً منها دون الأخريات. أنت هي كلها وأكثر. كلما واتتك ظروفٌ مناسبة ربما تظهر أنت جديدة أو مختلفة. هذه "الأنات" الكثيرة متناقضة ولا بدّ - ولعل هذا يفسر تعاستنا – لكنها موجودة وإلا لم نكن لنراها. تشعر بالسلام والسكينة أكثر عندما تكون هذه الأنات أقل تشاكساً. لكنك تنتبه وتندهش حقاً بقدرة هذا البشري واحتمالاته اللانهائية. الإنسان في أصل تصميمه وخلقه مزوّدٌ بكل الاحتمالات "فألهمها فجورها وتقواها" وكل تجربة عنده تستفز فيه شيئاً معينا يكونه.
الاحتمال التاريخي
ما أصبحته أنت الآن هو الاحتمال التاريخي المتحقق من كل ممكناتك المحتملة. لو تغيرت الظروف ستتغير أنت – غالبا فلا أحد يمكن أن يعرف على وجه التأكيد ما الذي يطوي عليه المسار الآخر. لذلك عليك أن تنتبه عندما تتحدث عن نفسك إنك تتحدث فقط عن الاحتمال التاريخي، وليس أنت. الكامن لا زال موجودا عندك لم يُختَبر، لم يخرج، وهو جوهرٌ فريد لا يشبه أحداً آخر. عليك أن تشعر بالأسى عندما تعيش أسير هذا الاحتمال المحدود: فتُبغِض أشياء وأناس، وتحب أشياء وأناس، وتخشى أشياء وأناس، تتولد لديك عقدة من شيءٍ ما، أو تدمن شيئاً ما بسبب اعتيادك وتسليمك. تصير فعلا أسير هذا الاحتمال، رافضاً ذلك الغِنى الهائل اللانهائي في جماله وقدراته الذي بداخلك. عليك أن تتواصل مع جوهرك هذا وأن تستمد منه جمالك وقدرتك وتفرُّدك. لتفعل ذلك عليك أن تعرف في البداية من أنت.


كيف نعرف من نحن
علينا أن نعرف من نحن حقا، ليس من نريد أن نكون أو من نخشى أن نكون. علينا أن نتوقف قليلا لننظر إلى أنفسنا دون سعي لإصلاحها أو تجميلها أو إفسادها. أليس واضحاً أنه يتعين علينا قبل أن نُصلح شيئاً أن نعرف ما هو على الأقل. عندما سألت الطلاب ذلك السؤال كان واضحاً أنه ليس ممكنا العثور على الإجابة، ليس لأن السؤال جدليّ كما اعتقدت إحدى الشابات الذكيات، ولكن لأنه لا توجد إجابة صحيحة للسؤال، لا توجد إجابة يمكن التعبير عنها. علينا أن نعرف أنفسنا دون الاعتماد على أية تعبير أو لغة أو كلمات. لأن الكلمات تغير الحقائق.

ليست هناك تعليقات: